يعاني الفنانون العراقيون سوء الأوضاع المعيشيَّة الَّتي تنعكس على حالتهم الصِّحيَّة، خصوصًا في ظل غياب الإهتمام الرَّسمي بهم.


بغداد: يعيش أغلب الفنانين العراقيين في حالة يرثى لها، وهذا ما ترتب عليه انطفاء العديد منهم بسبب المرض، نعم المرض الذي يجد الفنان نفسه ازاءه في حيرة من أمره، فهو يتطلب علاجًا وعناية ورعاية، وإذ إن اغلب الفنانين العراقيين فقراء وأحوالهم المادية ليست على ما يرام، لذلك فإن أي عارض مرضي سرعان ما تكون له مضاعفات تؤثر فيهم كثيرًا وسرعان ما تطرحهم على أسرة المرض وتبدأ معها محاولات عادية للإنقاذ، ولكن في كثير من الأحيان تبوء المحاولات بالفشل ويظل الفنان العراقي يعيش مرارات المرض العديدة لانه لا يمتلك القدرة على الشفاء، ليس هنالك من يحميه من السقم ولا يوفر له العلاج المناسب لكي يشفى، فيظل نائمًا في بيته يلوذ بعائلته عاجزًا عن ان ينهض بنفسه، لان الدواء يصبح بعيد المنال وعيونه تتحول الى ترقب من يطرق الباب لكي يتفضل عليه بـquot;صدقةquot; من هنا او هناك، وربما هذه الصدقة تكون كافية او لا تفي بالغرض.

وكثيرون هم الفنانون الذين ماتوا لأنهم لم يستطيعوا الحصول على علاجات حقيقية للشفاء، وكثيرون هم الفنانون الذين ما زالوا يتوجعون بانتظار معجزة، والوسط الفني العراقي مليء بالحكايات التي تتحدث عن فنانين غابوا عن الساحة الفنية بسبب المرض حين لم تتوفر لهم سبل الشفاء، وبالحكايات التي تحكي عن فنانين ماتوا بعد ان خذلتهم المؤسسات الثقافية فلم يجدوا الا الاستسلام للمرض ومن ثم المعاناة من الموت البطيء.

على سبيل المثال لا الحصر، هناك الفنان فاضل جاسم الذي أصابه الإهمال بالعمى، وهو الآن يعيش في حالة سيئة ولا احد يسأل عنه، وهناك الفنان مكي البدري الذي اهمل تمامًا فنيًا وحياتيًا حتى وهن العظم منه، وما كان لديه من امل سوى صحبة زملائه لكن المرض باغته فلم يجد الا ان يغادر الوطن الى استراليا حيث تعيش ابنته، وهناك الفنان صادق علي شاهين الذي أجريت له عملية جراحية بتبديل صمام القلب وعلى نفقته الخاصة ومن سنتين راقد في البيت ووضعه الصحي صعب وليس هنالك سوى النسيان يلف مساحات التذكر بينه وبين الاخرين، وهناك الفنان عبد الجبار الشرقاوي الذي عانى ما عانى اثر عمليات جراحية عديدة في الحنجرة لكن المرض الخبيث عاد ليضربها وليس لديه ما يفعله سوى الانتظار لشيء، وهناك الفنانة امل طه التي هي الاخرى اسقطها المرض ارضًا ولم تعد تمتلك القوة لهزيمته وهي الآن تعيش بين اهلها في محافظة واسط في صمت حيث غابت الاصوات السائلة عنها، وهناك الفنان بدري حسون فريد الذي عاد من المغرب الى بغداد لكن المرض احاطه فكأنه لم يعد وكأنه يعيش في كوكب آخر فلا سؤال عنه ولا عناية تزيل توجعات المرض عنه، وهناك الفنانة زهرة الربيعي التي تنوح بحثًا عمن يستطيع تقديم تأشيرة دخول الى المانيا من اجل العلاج على نفقتها الخاصة ولكن لا احد سمع نداءها وها هي تعيش كل يوم حالات من تورم يدها والبكاء من الالم الممض الذي تعانيه، وهناك المخرج المسرحي عماد محمد الذي يشكو من أمراض في القلب تطلب منه ان يضع بطارية في صدره وان يهدأ تمامًا ولا يجهد نفسه، وهناك مدير التصوير صباح السراج الذي تعرض لحادث مؤسف وغاب وتم نسيانه، وهناك الفنان عدنان شلاش الذي حالته الصحية غير جيدة ومثله كثيرون مثل فؤاد سالم وطالب القره غولي، واسماء تغيب عن المشهد ولا احد يسأل عنها وتذوب في الغياب الى ان تقوم المؤسسة الفنية بتعليق لافتة سوداء كتب عليها quot;انتقل الى رحمة الله الفنان...quot;، وتحاول ان تقيم له جلسة استذكارية تعلن فيها مدائحها العالية جدًا له ومن ثم النسيان التام، وطالما مات الكثيرون في المستشفيات بسبب الاهمال وعدم الرعاية ولعدم وجود مال كاف لديهم للعلاج.

وعلى الدوام تكون بيني وبين نقيب الفنانين احاديث عما يتعرض له الفنانون، فيؤكد صباح المندلاوي انه يزور الجميع للاطمئنان إلى صحتهم ولكن مسألة المساعدات المالية هي ما تجعل النقابة في موقف محرج اذ ليس لديها ما تقدمه للفنان في مرضه الا ان تزوره وتحاول ان ترفع من معنوياته وتدعمه بالمتيسر.

يقول الفنان عبد الجبار الشرقاوي: quot;بعد المرحلة الماضية من العلاج في العام الماضي اجريت عمليتين جراحيتين الاولى في عمان والثانية في اربيل والعلاج الشعاعي الذري كان في سوريا، وتم صرف مبلغ كبير كان من الصعب ان اوفره لولا الاستاذ سعد البزاز الذي لا يمكن ان انسى فضله والحاج عمار علوان وموقف دائرة السينما والمسرح، وما كان باستطاعتي إجراء هاتين العمليتين، وعلى الرغم من هذا العلاج وبعد مرور ستة أشهر عاد المرض مرة ثانية ولا اعرف السبب في الخللquot;.

ويكمل: quot;العلاج لابد ان يكون خارج العراق وهذه المرة ليست لدي القدرة المالية مثل المرة السابقة التي استطعت فيها معالجة نفسي، فوزارة الثقافة لا عتب عليها وهي ضعيفة جدًا وإذا ما ارادوا ان يعملوا منجزًا فأمام الاعلام فقط، وهذه السنوات الاخيرة اكبر شاهد، وليس لها علاقة بأي فنان لا السيد الوزير ولا السادة وكلاؤه الثلاثة، مثلاً في المرة الماضية عملت قناة الحرة تغطية عن مرضي وجعلوا الخبر ضمن اخبار النشرة الرئيسة لعل احدًا من المسؤولين الذين صاروا بعشرات الالاف في الدولة يشاهده، ولكن للاسف كل واحد منهم يغني على ليلاه، وينظر الى مصلحته فقط، فلا يوجد أحد التف واتصل وقال انه سيتبنى الموضوع لان هذا مواطن عراقي خدم البلد ولا بد من الوقوف معهquot;.

وتابع: quot;لابد ان ابدأ من جديد المراحل التي عملتها في المرة الماضية، يعني ان العملية الجراحية لا بد ان تكون في عمان او في احدى الدول المتقدمة في مجال الطب، ولا اعرف السبيل، انا الان اجري الفحوصات واراجع الطبيب بحثًا عن نتيجة، لكن كلفة العملية مكلفة جدًا، في العام الماضي كلفتني 23 ألف دولار، قسم استدنته وقسم من اصحاب الموقف المشرفquot;.

واختتم حديثه بعتب شديد: quot;الآن على من اعتب؟ على شبكة الاعلام العراقي التي لا علاقة لها بأي فنان من مدير الشبكة الى اي مسؤول فيها ولا يسألون، اسمها شبكة الاعلام العراقي لكنها لا علاقة لها بالفنان العراقي ويفترض ان يكون لها دور في هذا الموضوع، اما نقابة الفنانين فهي ضعيفة جدًا وهي اعجز من العجز نفسه ان تقوم بدور لمساعدة فنان عراقي، اما الحكومة فهي منشغلة بمشاكلها، واقولها بصراحة انهم ليسوا حريصين على البلد ولا على الشعب، كلهم من دون استثناءquot;.

فيما يقول عدنان شلاش: quot;إهمال الفنان يعني إهمال الانسانية واهمال الانسان العراقي الصميم والحقيقي واهمالا للفكر المتقدم ايضًا واهمالا للثقافة، وهذا الاهمال متعمد لانه يشكل خطرًا على مركز السياسيين والمسؤولين وعلى كراسيهم، وعلى تحالفاتهم المقيتة، وعلى انتماءاتهم المشبوهة، ووعودهم في التحسن والخلق والبناء، الفنان يشكل ثقلاً اساسيًا بثقافته بفكره بعطائه لكي يزيح الرديء ويوجد الجيد والمفيد، لذلك تم تهميش الفنان ولا يذكرونه الا عندما يأتي خبر وفاته ليقلد قلادة او يمنح درعًا تذكاريًا ولا اعرف ما فائدتهquot;.ويختم حديثه بالقول: quot;الفنان المريض لم يعر له احد اهميةquot;.

اما الفنان عزيز خيون فقال: quot;لا أتي بجديد اذا قلت ان الفنان هو دائمًا رأسمال مهم في كل الشعوب وكل الحضارات، وحتى نحن الآن بعد هذا الجدل السياسي الذي ليست له نهاية، ما زلت أثق كثيرًا بالجبهة الثقافية، وبالمثقف العراقي بكل تجلياته، مسرحيًا كان او موسيقيًا او اديبًا او فنانًا تشكيليًا، في كل التفاصيل، لذلك لا ادري هل نكرر مطالبة الحكومة ان تنتبه؟ انا اشك ان تنتبه، ولا اعرف لماذا، فقد طرقنا كل الابواب ويبدو ان الحكومة لها مشاغل اخرى، بعيدة عن تجليات الثقافة وبعيدة عن العقل العراقي المفكرquot;.

واضاف: quot;انا من خلال quot;ايلافquot; ادعو الى إنشاء صندوق دعم للفنان العراقي نحن الفنانين نقوم عليه، كل الفنانين بمختلف مجالاتهم، وهذا الصندوق يكون خيره لكل الفنانين الذين يحتاجون المعونة والدعم، ولكن كي لا نقول نحن اغلقنا الباب فنحن سنطرق باب الدولة مرة اخرى، واطرق اقرب باب بالنسبة لنا وهو باب وزارة الثقافة مرة اخرى، اقول ان الفنان العراقي ايًا كان في كل تجلياته هو ثروة مهمة في هذا الزمن وفي غير زمن، فيجب الانتباه اليه ومتابعة شؤونه، اعتقد ان هذه من ابسط طلبات المواطن ومن ابسط مهمات الحكومة، وبالذات في هكذا مهالك، فالمرض مهلكةquot;.

وتابع : لجنة الثقافة والاعلام في البرلمان واحدة من مهامها استحصال او نحت قانون داخل الدستور العراقي تعالج هذا الجانب الخطير والمهم في حياتنا، ونحن الآن نفقد اناسًا كثيرين، واعتقد ان هذه اللجنة قادرة على ان تطرق الابواب وقادرة ان تحركquot;.

وقال المخرج المسرحي عماد محمد: quot;يمكن ان نقول إن الموضوع محسوم ، لعدم وجود قانون يحمي الفنان العراقي، القانون هو ضمان دائم واكيد للحالات التي يتعرض لها الفنان، اما مسألة المكارم والعطايا والهبات والتبرعات فهذه قضية مخجلة ومعيبة بحق الفنان العراقي، وانا من الاشخاص الذين تعرضوا لأزمة صحية، فواجهت مشكلة كبيرة اذ لا يوجد قانون أو ضمان صحي يحميني من اية مشكلة صحية، فوجدت انني اعيش من دون ضمان مقابل استنزاف صحتي وجهدي تجاه ثقافة البلد والمسرح في البلد، وبالتالي انا اجد نفسي غير قادر على ان اكون في وضع صحي يؤهلني أن استمر بمشروعي المسرحيquot;.

واضاف: quot;المشكلة الاخرى هي بالفنان نفسه، فهو لم يضغط على الحكومة او على المؤسسات الرسمية الثقافية ان تضع آليات وقوانين لهكذا حالات، فيفترض بالفنان ان يضغط على الحكومة مثلما ضغط الصحافيون فكان هناك قانون الصحافيين، وكان يفترض ان يكون هناك قانون للفنانين وبالتالي هذا القانون على الاقل حتى لو طالت عملية الموافقة عليه فسيكون هناك افق للفنان ان ينتظر قانونا يحميه صحيًا واجتماعيًا، كما ان هناك قضية اخرى وهي ان نقابة الفنانين للاسف لا وجود لها اطلاقًا وتحولت الى quot;كشكquot; لأخذ مبالغ من الفنانين على العكس تمامًا من دورها الحقيقي في اعانة الفنان في وقت الشدة وفي وقت يحتاج الى مصدر لعلاجه او غيره، نقابة الفنانين من مسؤوليتها تفعيل صندوق الفنانين ومن مسؤوليتها ايضًا تفعيل قانون حماية الفنانين بشكل عام، فالنقابة لحد هذه اللحظة لم تصدر اي بيان او اي مطلب من الحكومة لحماية الفنان صحيًا، وحاليًا هناك العشرات من الفنانين العراقيين مرضى وللاسف هم من دون علاج ومن دون ان يفكر بهم احد، والكثير منهم توفي لهذا السبب ومنهم الفنان عز الدين طابو وعبد الخالق المختار وعبد الباري العبودي، لعدم وجود حماية من قبل الدولة والمؤسسات ونقابة الفنانين للفنان، لهذا نحن ندعو الى سن قانون للفنانين يحميهم اجتماعيًا وصحيًاquot;.