&إيلاف من بيروت: "تَمّ" كلمة زَفَرتها حجارة معبد باخوس بعدما عُطّرت ببخور الصوت. تمّ حلم الوصال. نذور الصوت للهيكل أهرقت على المسرح/ المذبح ابتهالاً بسرّ الفتنة السحيق. صوت جاهدة وهبه وقدسية المعبد، فتنتان لتاريخٍ يعانق التاريخ.
لم تدرِ المنشدة تلك الليلة من ليالي مهرجانات بعلبك، أنها وصوتها عادا إلى الرحم الخصبة ليولدا على شكل أغنية دهرية. لم تدرِ كاهنة المسرح أن ما قدّمته مع المؤلف الموسيقي إيلي معلوف، هو نوطة سحرية لخلود العبق، وهي التي كانت تستجيب نداءات سكنتها منذ الأزل. نداءاتها أصابت الوجدان الموسيقي، الوجدان الظمئ إلى أصالة جاهدة وهبه المتحدّرة من رقيّ المكان وأعمدة بعلبك. أعمدةٌ حطّ صوت وهبه على تيجانها كنسرٍ مزهوٍّ بالتحليق مع جوقة ملائكة.
وكما كان في البدء الكلمة، كانت كلمة/ تحية لبعلبك المحتضنة جاهدة وهبة: "كل السلالم الموسيقية تؤدي إلى بعلبك، كل نغم أصيل شاهق عريق يحملنا إلى دارها الأصالة إلى تاريخها المجد (...)" بعد ما سُمع من خلف الحجارة صوت وهبه يظلل قصيدة ميشال طراد عن بعلبك: "يا قاطعة من المجد لجبينك عقال/ نَكنّك حقيقة تنازلي وصيري خيال (...)".
&كل العناصر الصوتية واللحنية والموسيقية والدرامية أثثت لأمسية "من الطرب إلى الجاز" للموسيقي والمغنية التي استحالت أنشودةَ عبق ذابت في عبقرية صوت وهبة الآتي من أزمنة مسحورة. في تلك الحنجرة الممتلئة نغمة، القابضة على أسرار الغناء، القادرة على التجلّي في مقامات شاهقة، والعابرة للأنماط والأنواع والطرائق. فإذا بها تنخطف، حيناً، لتخطف المتلقّي إلى عوالمها الصوفية مستحضرة رابعة العدوية والحلّاج، وأحياناً تنعتق إلى وجدٍ من نوع آخر بترنيمة سريانية تخترقها موسيقى تركية أعاد توزيعها معلوف ببراعة ماهرة. وبين الموسيقى والغناء مساحات خضراء وسموات أوفدت نجومها لتلقي التحية بالضوء على من شكّلا حالةً فريدة في التشكيل الموسيقي للفنان معلوف أولاً، الذي ألّف موسيقات مزج فيها الشرقي والجاز والمعاصر، وقدمها على البيانو والبزق باحتراف عالٍ، برفقةٍ ممتعة من تشيلو وكونترباص وكمان وأكورديون ودرامز وإيقاعات وترومبات وقانون. والفنانة وهبه، التي استطاعت أن تعمّق تلك الحالة إلى أقاصي الفرادة بسلاسة التماهي مع موسيقى معلوف، من جهة، وألحانها الخاصة، من جهة، وأغنيات كبار الفنانين الذين قطفت من حقولهم باقات خالدة في الغناء، لاسيّما في القسم الأول من الأمسية المخصص للبنانيات بأصوات كبار لا يزال طيفهم داخل المعبد كالسيدة فيروز ووديع الصافي.&
وبمركبتها الموصولة بالطنين الكوني، واصلت "قصيدة الصوت" رحلتها المتسربلة بظلال الأزمان، بتوليفة راقية ممتعة شديدة الربط والدفء بين ألحانها الخاصة لكبار الشعراء، وبين ألحان وأغنيات كلاسيكية. فعصف الشوق بين سيّد درويش "يا شادي الألحان" ومحمود درويش "يطير الحمام"، وبينهما قصائد وأغنيات وأداء آسر وصوت مصقول كجوهرة تزداد نضارة وبريقاً.
لقاء المرنّمة &والموسيقي والمعبد، انصهار مبارك في تاريخ مأهول بالنغمات والألحان والمجد. لقاء لم يتجرأ على سكونه، جمهور كبير خُصصت له مقاعد إضافية مباشرة خلف المسرح لأن المكان لم يتسع لكل الوافدين، حتى يخال الناظر أن الجمهور القابع خلف الموسيقيين هو جوقة الغناء، وهذه حدثت للمرة الثالثة فحسب في تاريخ مهرجانات بعلبك.

& &
&