التقرير السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية ''أفد'' 2010: مشهد مائي متأزم و تدخل علمي رصين

أصدر المنتدى العربي للبيئة والتنمية تقريره السنوي الثالث حول المياه في مؤتمر ببيروت حول ضم أحدث المعلومات حول وضع البيئة العربية، ويقترح السياسات المطلوبة لمواجهة تحديات العجز المائي.


محمد التفراوتي: بات من نافلة القول ومكرره، التحذير من خصاص ذلك المركب الكيميائي السائل الشفاف الذي يتشكل من ذرتين هيدروجين وذرة أكسجين، وأضحت الأصوات تتعالى منددة باستهلاك ذلك الشيء، الذي يحمل ذاكرة أصولنا الكونية، بإفراط وشراهة.

إنه الماء الذي جعل منه كل شيء حي. لكن أن نقارب مختلف مناحيه وأبعاده بالدرس والتحليل يستوجب تجاوز الإثارة والتشخيص التشائمي. دون بسط التحاليل البديلة التي ترسم مستقبل مائي عربي مستدام. يستشرف الآمال والآفاق المشرقة للأجيال الحالية والقادمة وذلك أمام واقع أزمة شح المياه في عموم الدول العربية التي تمتد في أكثر المناطق جفافاً في العالم والموسمة بالفقر المدقع.

لتناول هذه المعادلة، والتي تتشكل أطرفها بين مشهد مائي متأزم وبين وجوب تدخل علمي رصين، عمل المنتدى العربي للبيئة والتنمية ''أفد''، كمنظمة غير حكومية، على سبر أغوار وضع الموارد المائية في العالم العربي ودق ساعة العمل لتحسين إدارة المياه ومؤسساتها ووقف التدهور المضطرد الذي يواجه المنطقة خلال العقود المقبلة وذلك من خلال عرض تقديم تقريره السنوي الثالث حول quot;المياه: إدارة مستدامة لمورد متناقصquot; في مؤتمر حاشر ببيروت حولquot; إدارة مستدامة لمورد متناقصquot; يضم أحدث المعلومات حول وضع البيئة العربية، ويقترح السياسات المطلوبة لمواجهة تحديات العجز المائي.

تناولت فيه نخبة عربية وأجنبية، اكثر من 100 خبير وباحث، مختلف النتائج والاستنتاجات الرئيسية لخلاصات بحثية دقيقة،وذلك بالتعاون مع مراكز أبحاث وجامعات في المنطقة العربية والعالم.

كما حرر التقرير الدكتور محمد العشري، الرئيس السابق لمرفق البيئة العالمي وعضو مجلس أمناء المنتدى. ويشارك فيه الدكتور فاروق الباز، مدير مركز أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأميركية، بدراسة خاصة حول استكشاف مواقع المياه الجوفية في الصحراء العربية بواسطة الأقمار الاصطناعية، تحتوي على معلومات وصور تنشر للمرة الأولى. ومن مؤلفي التقرير الدكتور شوقي البرغوثي، المدير العام للمركز الدولي للزراعات الملحية، والدكتور حمو العمراني، منسق برامج المياه في المركز الدولي لبحوث التنمية، والدكتور أيمن أبوحديد، رئيس مركز الأبحاث الزراعية في القاهرة، والدكتور عادل بشناق، مدير الجمعية الدولية للتحلية....

ويستشف من هذا التقرير رسالة رئيسية تأخذ ثلاثة اتجاهات: أولاً، العالم العربي دخل فعلاً في أزمة مائية من المحتوم ان تزداد سوءاً مع استمرار التقاعس في معالجتها. ثانياً، يمكن معالجة الأزمة المائية، على ضخامتها وتعدد وجوهها، من خلال إصلاحات في السياسات والمؤسسات، وعبر التربية والأبحاث وحملات التوعية. ثالثاً، ان وضع حد للأزمة والمعاناة المائية في العالم العربي ممكن فقط إذا أخذ رؤساء الدول والحكومات قرارات إستراتيجية باعتماد التوصيات الاصلاحية المطلوبة سريعاً.

وذكر التقرير أن العالم العربي يواجه خطر النقص في المياه والغذاء ما لم تتخذ خطوات سريعة وفعالة لمعالجة أزمة الشح المائي. حتى لو أمكن استخدام كل مصادر المياه العذبة المتوافرة في المنطقة، فالدول العربية ستجد نفسها، كمجموعة، تحت خط ندرة المياه. ويحذّر المنتدى العربي للبيئة والتنمية في تقريره لسنة 2010 من أن العرب سيواجهون، بحلول سنة 2015، وضعية quot;ندرة المياه الحادةquot;، حيث تنخفض الحصة السنوية من المياه للفرد الى أقل من 500 متر مكعب. وهذا الرقم يقل أكثر من 10 مرات عن المعدل العالمي الذي يتجاوز 6000 متر مكعب للفرد. وتشكل ندرة المياه عائقاً أمام التنمية الاقتصادية وإنتاج الغذاء والصحة البشرية ورفاه الانسان.

بعض الأرقام تساعد في فهم حدة ندرة مائية
لماذا يُعتبر كل ما هو دون 500 متر مكعب (500،000 ليتر) للفرد ندرة مائية حادة؟
فنجان واحد من القهوة يحتاج الى 150 ليتراً من المياه لانتاج ملعقة البن التي حُضّر منها، بينما يحتاج إنتاج كيلوغرام واحد من القمح الى 1.300 ليتر، وإنتاج كيلوغرام من لحم العجل الى 15،000 ليتر من المياه. وكلما كبر الفارق بين موارد المياه المتجددة في منطقة ما واحتياجاتها المائية، ارتفعت مخاطر ضعف الأمن المائي والغذائي.

وأكد التقرير أنه يتم استغلال المصادر المائية في العالم العربي، التي يقع ثلثاها خارج حدود المنطقة، الى أقصى الحدود. ثلاث عشرة دولة عربية هي بين الدول التسع عشرة الأفقر بالمياه في العالم. وكمية المياه المتوافرة للفرد في ثماني دول هي اليوم أقل من 200 متر مكعب سنوياً، أي أقل من نصف الكمية المعتبرة ندرة حادة في المياه. وينخفض الرقم الى ما دون 100 متر مكعب في ست دول. سنة 2015 سيبقى فوق خط ندرة المياه، أي أكثر من 1،000 متر مكعب للفرد، دولتان عربيتان فقط هما العراق والسودان، هذا اذا استمرت الامدادات من تركيا وإثيوبيا على مستواها الحالي. لذا، ففي غياب تغييرات جذرية في السياسات والممارسات المائية، سيزداد الوضع تدهوراً، مع ما يستتبعه ذلك من مضاعفات اجتماعية وسياسية واقتصادية خطيرة.

البلدان العربية تقع في المنطقة الأكثر جفافاً في العالم، حيث أكثر من 70 في المئة من الأراضي قاحلة، والمطر قليل وموزع على نحو غير متوازن. تغير المناخ سيزيد الوضع تعقيداً، إذ من المتوقع أن تواجه البلدان العربية مع نهاية القرن الحادي والعشرين انخفاضاً يصل الى 25 في المئة في المتساقطات مع ارتفاع 25 في المئة في معدلات التبخر. وكنتيجة لهذا ستقع الزراعات المروية في دائرة الخطر، مع معدل انخفاض في الإنتاجية يصل الى 20 في المئة.

الزراعة تتصدر استعمالات المياه في المنطقة العربية

تتصدر الزراعة استعمالات المياه في المنطقة العربية، حيث تستخدم نحو 85 في المئة من الموارد المائية العذبة، مقابل معدل عالمي لا يتعدى 70 في المئة. كما أن كفاءة الري منخفضة جداً في معظم البلدان، حيث لا تتجاوز 30 في المئة مقابل معدل عالمي يصل الى 45 في المئة. ولا تزال الانتاجية الزراعية تقاس بكمية الأطنان المنتجة في كل هكتار من الأرض من دون اعتبار لكمية المياه المستخدمة، بينما يجب أن تقاس بكمية الانتاج الزراعي مقابل كل متر مكعب من المياه، ليتم حساب استخدام المياه كجزء من كلفة الانتاج.
ولما كانت إمدادات المياه السطحية عاجزة عن تلبية الحاجات المتعاظمة لزيادة السكان والتنمية الاقتصادية، تم استغلال المياه الجوفية بما يتجاوز الحدود المأمونة. وقد أدى هذا الى انخفاض كبير في مستوى طبقات المياه وتسبب بتلويث الخزانات الجوفية. ويعتبر تلوث المياه تحدياً رئيسياً في المنطقة بسبب ازدياد تصريف المياه المنزلية والصناعية المبتذلة في الأجسام المائية، إضافة الى التلويث بالمواد الكيميائية الزراعية، مما يرفع المخاطر الصحية، خاصة بين الأطفال. ويتم تصريف أكثر من 43 في المئة من المياه المبتذلة في المنطقة بلا معالجة، بينما لا يُعاد استخدام أكثر من 20 في المئة منها. وأسفر السحب المفرط للمياه الجوفية في المناطق الساحلية عن تسرب المياه المالحة الى الخزانات الجوفية.
تحلية مياه البحر.

وأفاد التقرير أن النقص في المياه دفع عدداً من البلدان العربية الى الاعتماد القوي على تحلية مياه البحر لتلبية الجزء الكبير من حاجاتها البلدية والصناعية. والمفارقة أن العالم العربي، الذي يضم 5 في المئة فقط من سكان العالم، لا يحتوي على أكثر من واحد في المئة من مصادر المياه العذبة المتجددة، بينما ينتج في المقابل أكثر من 50 في المئة من مياه البحر المحلاة في العالم. ووفق توقعات الزيادة السنوية في قدرات مصانع التحلية، ستتضاعف القدرة الانتاجية لمعامل التحلية العربية مع حلول سنة 2016، وذلك في معامل تستخدم تكنولوجيات مستوردة كلياً وشديدة الكلفة والتلويث. وتستخدم بعض بلدان المنطقة جزءاً من مياه البحر المحلاة ذات الكلفة العالية لري مزروعات قليلة القيمة، أو حتى لري ملاعب الغولف. ويساهم تصريف فضلات محطات التحلية بشكل كبير في زيادة ملوحة المياه الساحلية وارتفاع درجات الحرارة فيها. ان قدرة مشاريع التحلية على الاستمرار في تلبية الحاجات المائية المتزايدة تعتمد على التوصل الى اختراق كبير في التكنولوجيا وتطوير القدرات الوطنية، مما يجعل تكنولوجيا التحلية أقل كلفة وأقل ضرراً بالبيئة. ويمكن تحقيق هذا عن طريق تطوير واستخدام تكنولوجيات مبتكرة للتحلية بواسطة الطاقة الشمسية.

وجد تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية أن معظم المؤسسات العامة في العالم العربي، التي تخدم الري أو الاحتياجات البلدية، لا تعمل بشكل صحيح ولا تخدم زبائنها بفعالية. ان مسؤولية إدارة المياه وخدماتها موزعة على مؤسسات مختلفة، نادراً ما تنسق في ما بينها. يضاف الى هذا أن آلية اتخاذ القرار هي من القمة الى القاعدة، بلا مشاركة فاعلة للمجموعات المستفيدة.

يرى التقرير أن المياه المجانية هي مياه ضائعة. فأسعار المياه المنخفضة على نحو غير طبيعي والدعم الكبير لخدمات المياه هما في أساس مشكلة انعدام الكفاءة، والاستخدام المفرط، والتلويث المرتفع، والتدهور البيئي. وكمثل على هذا، فإن معدل ما يتم جبايته لقاء تزويد المياه في المنطقة لا يتجاوز 35 في المئة من كلفة الانتاج والتوزيع، وفي حال مياه التحلية، فهو 10 في المئة فقط. وبينما حظيت فكرة التسعير العادل للمياه بدعم في المنطقة منذ وقت طويل، خاصة لأغراض الري، لم يتم تطبيقها إلا في حالات قليلة، مع أنها عنصر أساسي لجذب مزيد من الاستثمارات التي يحتاجها تطوير قطاع المياه. غير أن الاستثمارات المالية وحدها لا تكفي لمعالجة تحديات المياه، لأن الحلول التكنولوجية والهندسية لا تعطي نتائج فعّالة إلا بموازاة إدخال الاصلاحات الضرورية في السياسات والمؤسسات والتشريعات.

آليات ملائمة للتسعير لإدارة مائية السليمة

تتطلب الإدارة السليمة لإمدادات المياه البلدية والصناعية إدخال آليات ملائمة للتسعير. عند تقييم أسعار المياه للاستعمالات البلدية والصناعية، على صانعي القرار البحث عن تركيب للأسعار يضمن قبول المستخدمين المحليين، والكفاءة الاقتصادية، واسترجاع الكلفة، والعدالة. يجب استبدال الأسعار الموحدة للمياه بتعرفة ذات شقين: سعر ثابت للاحتياجات الأساسية يساعد في تأمين سيولة مالية لمؤسسات المياه، وسعر متحرك يعتمد على مستوى الاستخدام، وذلك لتشجيع تحسين الكفاءة وتعديل أنماط الاستهلاك.
المشاكل التي تواجه إدارة المياه في المنطقة العربية كبيرة جداً، وحصر المعالجة بتطوير مصادر جديدة لم يعد خياراً قابلاً للحياة. هناك حاجة ملحة لتحول استراتيجي من ثقافة تنمية مصادر المياه الى ثقافة تحسين إدارة المياه، وترشيد الاستهلاك، وتشجيع إعادة الاستعمال، وحماية المصادر المائية من الاستهلاك المفرط والتلوث. إحدى التوصيات المحورية في تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية أنه قبل الاقدام على استثمار مبالغ طائلة لزيادة إمدادات المياه، يجب تنفيذ تدابير أقل كلفة لتخفيض خسارة المياه وتحسين كفاءتها. هذا يعني إعادة النظر في دور الحكومة، فيتحول من التركيز الحصري على دور المزوِّد للمياه الى دور الهيئة الناظمة والمخططة.

تعميم نطاق المعرفة حول المياه

إن توسيع نطاق المعرفة حول المياه الجوفية والأراضي الرطبة والمستنقعات والبحيرات وأحواض الأنهار شرط ضروري لادارة الموارد المائية على نحو مستدام. وهناك العديد من تكنولوجيات الاستشعار عن بعد التي يمكن أن تساهم بمعلومات قيمة لادارة أنظمة المياه الطبيعية واستكشاف مصادر المياه الجوفية. وتعالج دراسات التقييم التغييرات الحاصلة في أنظمة المياه العذبة نتيجة للنشاط الانساني أو تغير المناخ. وهناك حاجة الى المزيد من الأبحاث التي تركز على تطوير أنواع محلية من المحاصيل التي تحتمل الجفاف والملوحة، ومعالجة تحديات الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ.

لا يحتمل العرب خسارة نقطة ماء واحدة. على الحكومات أن تطبق فوراً سياسات مستدامة لادارة المياه، تقوم على ترشيد الطلب لتأمين استخدام أكثر كفاءة. ويمكن تحقيق هذا بفرض قيمة اقتصادية على المياه، يتم قياسها وفق القيمة الفعلية للمنتج النهائي استناداً إلى كمية المياه المستخدمة. على الحكومات تطبيق تدابير لفرض استخدام المياه بكفاءة، والتحول من الري بالغمر الى أنظمة أكثر جدارة مثل الري بالتنقيط، وإدخال محاصيل تحتمل الملوحة وتتطلب كمية أقل من المياه، وتدوير المياه وإعادة استخدامها، وتطوير تكنولوجيات رخيصة للتحلية. كما أن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث والتعاون العلمي على المستوى الإقليمي لمجابهة تحديات الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ.