يتبدّى انهيار الصحف الورقية الغربية في توقّف طبعات وعزل رؤساء تحرير بانتظام وتعاظم الخسائر المالية، في حين أن الاستراتيجيات التي اعتمدتها للانتقال إلى التكنولوجيا الرقمية لم تثمر حتى الآن.


إعداد عبد الاله مجيد: صار القارئ اليوم شديد التطلب، متعدد الاهتمامات، لا يمكن استمالته بسهولة. وإذا كان هذا يصح بصفة خاصة على الصحف الورقية البريطانية والأميركية، فان الوضع أسوأ في القارة الأوروبية، حيث يقول خبراء إن وسائل الاعلام التقليدية ما زالت في مرحلة تجريب الطبعات الرقمية وايجاد وسائل بديلة لنقل الخبر، وتقاضي رسوم مقابل قراءته في الطبعة الالكترونية. ويتربص الافلاس بقطاع الصحف الورقية، في حين اصبح تسريح العاملين حقيقة اسبوعية من حقائق الحياة.

هبوط حاد

لم تعرف الصحف الاسبانية سعة التوزيع التي نراها في بلدان أوروبية أخرى، لكن مبيعات هذه الصحف في هبوط حاد. فصحيفة بايس، على سبيل المثال، التي كانت تبيع 400 ألف نسخة في العام 2007، هبطت مبيعاتها إلى 267 الف نسخة في نيسان (أبريل) هذا العام. وانخفضت إيرادات الاعلان بنسبة 60 بالمئة منذ بداية الأزمة ولم تتحسن حتى الآن.

ونقلت صحيفة غارديان عن انريك سييرا، رئيس قسم المحتوى الالكتروني في صحيفة لا فانغارديا التي تصدر في برشلونة، قوله: "كانت الصحيفة تبيع اعلانًا ملونًا على صفحة كاملة مقابل 30 الف يورو لكننا سنكون محظوظين إذا تمكنا من الحصول على 5000 يورو الآن".

في هذه الأثناء، أعلنت منافستها ايل بريوديكو انها برسم البيع، ويمكن عمليًا أن يُقال الشيء نفسه على جميع الصحف الورقية الاسبانية الأخرى التي وضعتها التكنولوجيا الرقمية امام خيارات احلاها مر، هي الغلق أو الافلاس أو البيع.

النوعية هي الأهم

وقال سييرا: "الأسماء الكبيرة مثل غارديان ولا فانغارديا ولوموند ما زالت مراجع للأخبار لكن على طبعاتها الالكترونية، فالشباب لا يشترون الصحف لكنهم عندما يبحثون عن الخبر على الانترنت يتوجهون إلى الصحف التقليدية لأنهم يثقون بها لا شعوريًا".

واوضح اسماعيل نافريا، رئيس التجديد الرقمي في صحيفة لا فانغادريا، أن الصحيفة تحتاج إلى ثلاثة مصادر دخل على الأقل، "هي الاشتراكات والاعلانات واشياء اضافية تُقدم إلى القراء من خلال التجارة الالكترونية، فالاخبار لم تعد ذات قيمة، والجميع يعرف ما يجري... والشيء الوحيد الذي يمكن تسويقه هو النوعية".

إحساس كاذب بالأمن

في فرنسا، تواجه مجموعة نيس ماتان خطر الافلاس، وتحتاج صحيفة ليبراسيون اليسارية إلى حزمة انقاذ عاجلة قيمتها 14 مليون يورو، وتبحث صحيفة لوموند عن رئيس تحرير جديد.

وتمر الصحافة الفرنسية بأزمة سببها الانتقال إلى العالم الرقمي. وبحسب مدير وكالة فرانس برس السابق هنري باجيه، عميد كلية الصحافة في باريس اليوم، الصحف الفرنسية لم تكن مستعدة للتكنولوجيا الرقمية، "وهي تحاول التعامل مع المشاكل التي تواجه الطبعات الورقية اثناء الانتقال إلى الانترنت في وقت لا تتوفر الموارد المالية اللازمة لذلك".

ورأى أن دعم الدولة للصحافة الفرنسية من خلال الاعفاءات الضريبية وتخفيض الرسوم اشاع فيها احساسًا كاذبًا بالأمن منع الصحافة الفرنسية من اصلاح نفسها.

معادلة سحرية

وتبحث الصحف الفرنسية، مثلها مثل نظيراتها في انحاء العالم، عن المعادلة السحرية التي تزيد ربحيتها مع الانتقال إلى الانترنت. وقالت الخبيرة الرقمية اليس انتيوم إن الصحافة الفرنسية تواجه اليوم تحديين رئيسيين، "هما اقناع الصحافيين بالعمل للطبعتين الالكترونية والورقية، وتحقيق ايرادات مالية من المحتوى سواء من خلال تقاضي اشتراك مقابل الاطلاع على المحتوى او من خلال الاعلانات".

ولاحظت انتيوم أن فرنسا تواجه مشكلة خاصة لأن حاجز اللغة بالنسبة لكثير من القراء في الخارج يحد من الايرادات التي يمكن أن تتحق من الاشتراكات في الطبعة الالكترونية.

وهناك صحف فرنسية جديدة نسبيًا بدأت بطبعة الكترونية من دون طبعة ورقية رديفة مثل ميديابارت ورو 89 واتلانتيكو وسلات. وقال باجيه: "هذا يحل المشكلة التي واجهتها الصحافة التقليدية حين انتقلت إلى تقاضي رسوم مقابل الاطلاع على المحتوى بعد السماح بقراءة طبعتها الالكترونية مجانًا على الانترنت، فالقراء يريدون أن يعرفوا لماذا عليهم أن يدفعوا عن شيء كان يتوفر مجانًا في السابق".

ويتفق الخبراء الاعلاميون الفرنسيون على أن المستقبل سيكون للطبعة الالكترونية المنفردة، لكنهم يختلفون على موعد الحكم على الطبعة الورقية بالانقراض.

مناخ رقمي متحرك

في المانيا، استطاعت الصحف أن توفر لنفسها قدرًا من الحماية ضد العاصفة الرقمية، لأسباب منها اسعار البيع بالتجزئة العالية تقليديًا، ووصول تلفزيون الكيبل متأخرًا، وانتشار نموذج القارئ المشترك. فثلاثة ارباع مبيعات صحيفة زودويتشة تسايتونغ مثلًا تتحقق من الاشتراكات.

وكانت دير شبيغل من أول الشركات الاعلامية التي اطلقت موقعًا إخباريًا على الانترنت هو شبيغل اونلاين في العام 1994. وحرصت الشركة على ادارة الموقع الالكتروني والمجلة الورقية من مقرين مختلفين بفريقي تحرير منفصلين بالكامل تقريبًا. وبدت تلك استراتيجية ناجحة في حينه. فان شبيغل اونلاين ظل لمدة 15 سنة أوسع المواقع الاخبارية شعبية في المانيا، في حين كانت الطبعة الورقية تبيع أكثر من مليون نسخة.

وفي حين أن شبيغل اونلاين ما زالت طبعة الكترونية ناجحة فانها تراجعت إلى المركز الثالث، فيما هبطت مبيعات المجلة الورقية إلى أقل من 900 الف نسخة منذ اكثر من اربع سنوات. وفي كانون الأول (ديسمبر) قلص الموقع محتوى طبعته الانكليزية. وتعتزم المجلة تغيير طباعتها في مطلع العام المقبل بتقديم موعد صدورها يومًا إلى السبت للحفاظ على موقعها في مناخ رقمي يتحرك بسرعة.

الرقمية أولًا

وتواجه صحف المانية أخرى حاولت الحفاظ على طبعاتها الورقية المربحة صعوبات اليوم، نظرًا لهبوط الايرادات المتحققة من الاعلان. واعلنت صحيفة فرانكفورتر الغماينة تسايتونغ في ايار (مايو) أن خسائرها بلغت ملايين اليوروهات.

وحاولت مطبوعات المانية أخرى تحقيق الانتقال من الطبعة الورقية إلى الطبعة الالكترونية بطرق مختلفة. فعمدت صحيفة دي فيلت إلى رصد غالبية ميزانية التحرير للطبعة الالكترونية. ويعمل على إصدار الطبعة الورقية الآن فريق يضم 12 شخصًا فقط بينهم المصممون ومحررو الصور.

وقال رئيس تحرير الصحيفة يان اريك بيترز لصحيفة غارديان أن دي فيلت حاولت تنفيذ استراتيجية تقول: "الطبعة الرقمية اولا" منذ العام 2006، وتعين اجراء تغييرات جذرية لكسر عادات قديمة. وأكد أن هذه التغييرات بتقليص فريق الطبعة الورقية لم تؤثر على النوعية.

صحيفة محظوظة

تعتبر صحيفة دي فيلت محظوظة، لأنها جزء من مجموعة اكسل شبرنغر، أكبر امبراطورية اعلامية في أوروبا، من مطبوعاتها صحيفة بليد التي ما زالت أوسع صحف العالم انتشارًا خارج آسيا، وانجح موقع اخباري على الانترنت في المانيا.

وتختفي طبعة دي فيلت الالكترونية وراء جدار مثقوب لتقاضي رسوم اشتراك مقابل الاطلاع على محتواها، كما تفعل صحيفة نيويورك تايمز وصحيفة ديلي تلغراف، اللتان تسمحان للمستخدمين بالاطلاع على 20 مادة على متصفح واحد مجانًا كل شهر. واشارت صحيفة زودويتشة تسايتونغ إلى انها تعتزم تطبيق نموذج مماثل لتقاضي اجور مقابل الاطلاع على المحتوى في الشتاء المقبل. وتحاول صحيفة بيلد استدراج القراء إلى الاشتراك في الطبعة الالكترونية بوضع مواد معينة كأن تكون مقابلات حصرية وراء جدار الدفع للاطلاع عليها.

حق التعليق

في غضون ذلك، يحاول 25 صحافيًا استقصائيًا اطلاق موقع اعلامي الكتروني لا يعتمد على الاعلان باسم "كراوت ريبورتر". ومقابل 5 يورو في الشهر، يستطيع المشترك الحصول على امتيازات مثل حق التعليق أو تلقي دعوات لجلسات قراءة حصرية أو ورشات عمل أو ندوات مع الكتاب، لكن غالبية المحتوى سيكون مجانيًا.

وقال شتيفان نيغيماير، احد المبادرين إلى اطلاق مشروع كراوت ريبورتر، أن الاعلان يربط الطبعة الالكترونية بدورة سريعة من التغييرات ويدفع باتجاه تحويل صحف الكترونية رصينة إلى ما يسمى صحافة التابلويد. واضاف: "إذا لم تتبع القطيع ستفقد نقرات على موقعك".

وأوضح نيغيماير أن ما يريده وزملاؤه من المشروع هو أن يكتشفوا "إن كانت هناك طريقة لبناء نموذج من الصحافة الالكترونية لا يعتمد على الاعلان وما إذا كان سيعمل بنجاح".
&