&
تطرق بي بي سي باب العالم الرقمي، وتستعد لدخوله حاملة إرثًا صحافيًا هو الأعرق في هذا الميدان، من دون أن تتخلى عن تعريف لمديرها الأول جون ريث، الذي قال إن على بي بي سي أن تكون مرشد المواطن وفيلسوفه وصديقه.
&
مرت هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) بواحدة من أسوأ أزماتها، وهي تواجه عداءً لا نظير له من الصحافة، وتحديًا كبيرًا في تحولها إلى التكنولوجيا الرقمية. وفي سلسلة من المقالات تناولت صحيفة غارديان البريطانية ما آلت اليه رسالة بي بي سي، التي لخصها مديرها الأول جون ريث قبل 90 عامًا بقوله إن عليها أن تكون مرشد المواطن وفيلسوفه وصديقه.&
&
ركن في الحياة
حين تولى ريث ادارة بي بي سي في العام 1922، لم تكن لديه فكرة عن طبيعة عمله الاذاعي، فحاول أن يأتي بكل محادثة عابرة إلى الاذاعة، على حد تعبيره، إلى أن تبرع احد معارفه بتنويره. في 22 كانون الأول (ديسمبر) 1922، بدأ ريث دوامه مديرًا لبي بي سي في غرفة صغيرة جمعته مع اربعة موظفين آخرين.&
اليوم، عدد العاملين في بي بي سي 21 الفًا، وايراداتها 5 مليارات جنيه استرليني سنويًا. وفي عقدها العاشر، تستأثر بي بي سي بركن من حياة البريطانيين أكبر مما تحتله مؤسسات بريطانية أعرق مثل الملكية والجيش والكنيسة. وبخلاف غوغل وآمازون التي تخدر المستخدم بتصوير ما كان عليه الماضي، بي بي سي تنقل إلى البريطانيين افكارًا لم يحلموا بها، في فضاء متحرر من الأصوات التي تلاحق المستهلك لبيعه بضاعتها. وبي بي سي هي التي تقول للبحارة أين ستكون الأنواء الجوية عاصفة والبحر هائجًا، وتبث الأخبار إلى البريطانيين من دون خوف أو منَّة. وهي رفيقة من لا رفيق له وسلوى من يعيش في عزلة، وقبطان آخر غواصة نووية بريطانية سيعرف أن بريطانيا انتهت عندما تتوقف بي بي سي عن البث.&
&
أرقام مخيفة&
بظهور بي بي سي، أصبح ممكنًا لأول مرة في تاريخ الجزر البريطانية أن يتابع الرأي العام المبعثر جغرافيًا على جزرها الأحداث نفسها في وقت واحد. كما أن البث الاذاعي لا يعرف الشح ولا ينضب. وهو لا يقيم اعتبارًا للمكانة والثروة، وبحسب ريث في كتاب نشره في العام 1924 عن "البث في بريطانيا" فإن العبقري والغبي، الثري والفقير، يستمعون في آن واحد، وليس هناك أفراد من الطبقة الأولى وآخرون من الطبقة الثالثة.&
ورغم دائرة بث بي بي سي الواسعة وحضورها في كل بيت بريطاني، فإن هذه المؤسسة العريقة لم تكن مكشوفة للضربات كما هي الآن، إذ تتعرض لهجوم صحافة معادية كل يوم، ويتعاظم العداء بتأثير مصالح تجارية في وقت تكافح الصحف من اجل التنافس مع الموقع الاخباري لبي بي سي على الانترنت. وتنهال الضربات على بي بي سي بعد الكشف عن جرائم منحرفين عملوا فيها، والتعويضات الضخمة التي تدفعها للمدراء حين يغادرونها.
وعلى سبيل المثال، تقاضى نائب المدير العام مايك بايفورد 949 الف جنيه استرليني حين غادر عام 2011. فهذه الأرقام أقرب إلى عالم المصارف والمال منها إلى مؤسسة هدفها خدمة المصلحة العامة، لكنها باهتة مقارنة مع 100 مليون جنيه استرليني انفقتها بي بي سي على مشروعها التكنولوجي الفاشل، أو ما يُعرف باسم "المبادرة الاعلامية الرقمية"، التي سارع المدير العام توني هول إلى صرف النظر عنها.&
&
وحش عملاق
تعمل بي بي سي الآن في حقبة من التشظي الاعلامي لا سابق له. فنحن نعيش في عالم يوتيوب ونتفليكس، عالم يستطيع كل شخص أن يكون فيه مذيعًا، عالم يهدد حجم الشبكات الاعلامية العالمية فيه بتنحية بي بي سي إلى الظل. وبدأت عملية تمويل بي بي سي نفسها من خلال الضريبة التي تُجبى عن أجهزة التلفزيون، تبدو بالية ومهزوزة في عالم كومبيوتر لوحي وهاتف ذكي وتكنولوجيا تتيح أن نتابع في المساء ما فاتنا أن نتابعه في النهار.&
ومن يحاول أن يفهم مؤسسة بي بي سي كمن يحاول أن يفهم دولة قومية، دولة تشبه بريطانيا. فهي دولة لها بلاطها وقضاؤها ولورداتها وارستوقراطيتها وفنانوها ومبدعوها وطبقتها العاملة المستغَلة ومعارضوها وثوارها ووصوليوها ومرتشوها ومجرموها. وهي متعددة الأوجه تضم بين جوانبها كل اشكال المسعى البشري، من الراقي إلى الهابط.
ينظر آخرون إلى بي بي سي وكأنها ديانة، أُسسها الايمان واليقين، تضمحل عندما ينفض عنها اتباعها ومريدوها. وشبهها سيسيل لويس، اول طيار بريطاني في الحرب العالمية الأولى، عندما عمل في بي بي سي، بالوحش العملاق.&
وقال هول إن بي بي سي هي صوت بريطانيا إلى العالم وإلى الربيطانيين ايضًا، وإذا نظرت على سبيل المثال إلى ما يحدث في الاعلام المحلي، رغم ما تعرضنا له من انتقادات لأننا قتلنا الصحافة المحلية، فإنني عندما أطوف على المحطات الاذاعية والقنوات التلفزيونية المحلية، واطَّلع على ما يُنتج، أرى أننا مرآة تعكس اجزاء من بريطانيا على نفسها بطريقة لا يفعلها الاخرون، وهذا أمر بالغ الأهمية من وجهة نظر النقاش الديمقراطي.
&
ثقة جمهورها
كانت بي بي سي تجني 40 بالمئة أو اكثر من عائدات الاعلام في بريطانيا، وانخفضت حصتها اليوم إلى 25 بالمئة. ويقول هول إن وجود غوغل وآمازون وغيرهما من الشركات غير البريطانية التي تسيطر على استهلاك البريطانيين من الاعلام يجعل بي بي سي أكثر أهمية وليس العكس.&
يضيف: "حقبة التوسع المنفلت انتهت، وبي بي سي تمر الآن بفترة يتعين فيها تحديد ما تقدمه وما يمكن أن تفعله، ونحن ندرك أن علينا أن ننفق ما لدينا من موارد مالية بعناية فائقة وعلى اولوياتنا، ومن هنا أهمية الفنون واهمية تغطيتنا لعالم الموسيقى وأهمية الدراما، وأن على بي بي سي أن تكون أكثر تواضعًا في طموحها، فالمشكلة التي نواجهها او الفرصة المتاحة لنا هي أن ايصال ما ننتجه &إلى جمهورنا أشد تعقيدا الآن".&
وتكمن في قلب بي بي سي تناقضات اولها واكبرها انها ممولة من الضرائب لكي تقدم منتجًا تُعد السوق عاجزة عن توفيره، لكن عليها في الوقت نفسه أن تستدرج إلى برامجها أوسع جمهور ممكن لتبرير صرفها هذه الضرائب.
والتناقض الثاني انها مؤسسة قطاع عام وتجارية في الوقت نفسه، ممولة من ضريبة التلفزيون من جهة وعليها أن تحقق ايرادات باستخدام ذراعها التجارية من الجهة الأخرى. ويقترح هول أن تكون بي بي سي مدافعًا عن المستهلك، "مؤسسة عامة تعمل باسم مواطنيها من دون مصالح ذاتية خاصة تعمل على حمايتها، وبهذه الطريقة يمكن أن تستعيد ثقة الجمهور بها".&
&
كوكبة النساء
استقطبت بي بي سي أيام شبابها إعلاميين مستعدين للعمل في مهنة جديدة مجهولة وغير تقليدية. وعمل فيها عدد كبير من النساء الجامعيات. ولم يُفرض حظر على تشغيل المتزوجات في بي بي سي وإقالة من تتزوج إلا في العام 1932. حتى بعد ذلك، غض الطرف عن المنع وتم الالتفاف حوله. وكتب ريث، اول مدير للهيئة، مذكرة قال فيها: "إن كوكبة النساء اللواتي نشغِّلهن الآن بمستوى يستحققن معه معاملتهن على قدم المساواة من الرجال"، من امثال هيلدا ماثيسون، أول مديرة للندوات الاذاعية في بي بي سي. درست ماثيسون في جامعة اوكسفورد وعملت في جهاز مكافحة التجسس في روما. لكن ليبراليتها كانت تنتمي إلى الأقلية في بي بي سي، وعبثًا حاولت اختراق مؤسسة كان مديرها محافظًا صارمًا يقودها في اتجاه آخر. فحين انتقلت بي بي سي إلى بنايتها الضخمة في اوائل الثلاثينات، كان ريث يدير المؤسسة وكأنه قبطان بارجة، يسمي طوابقها كما يسمي أسطح السفينة، ويشير إلى مكتبه على انه قمرة القبطان.&
كانت ماثيسون صاحبة المبادرة إلى الكثير مما يُعرف الآن بأنه برامج الساعة والفنون والقضايا الدينية والسياسية والاخبارية. وكانت البرامج الاخبارية محدودة باتفاق مع مالكي الصحف، بحيث لا تبث إلا نشرات اخبارية توفرها وكالات الأنباء، وبعد الساعة السادسة مساء. وفي عام 1928، رُفع المنع على البرامج السجالية، فأتاح لها توسيع دائرة البرامج الكلامية. واطلقت ماثيسون برنامجًا عن البرلمان، لتثقيف المرأة التي نالت حق التصويت في ذلك العام. ونظمت ماثيسون اول مناظرة تُبث على الهواء مباشرة بين قادة الأحزاب الرئيسة الثلاثة. وكانت تستضيف شخصيات مثل جورج برنارد شو وريبيكا ويست وجون مينارد كينز وفيتا ساكفيل ويست.&
&
معارك مستمرة
بسبب جرأة ماثيسون ونزعتها التجديدية، دخلت في صراع مع ريث، الذي كتب في يومياته بتاريخ 6 آذار (مارس) 1930 أنه يضمر كراهية شديدة لماثيسون وعملها. وانتجت ماثيسون سلسلة من البرامج مع الكاتب هارولد نيكلسون عن الأدب الحديث، فأصبحت ساحة معركة أخرى إذ كان ريث يمقت المدارس الأدبية الحديثة. وكانت نقطة الخلاف الرئيسة هي السماح لنيكلسون بذكر اعمال أدبية ممنوعة، كعشيق الليدي تشاترلي ويوليسيس. وتوصل الفريقان إلى صيغة مؤداها ألا يأتي ذكر هذه الأعمال بالاسم مع السماح لنيكلسون بالقول إن بي بي سي منعته من ذكرها. واستقالت ماثيسون بعد أن اتعبتها معاركها مع ريث، واصبحت ناقدة في صحيفة أوبزرفر الاسبوعية، واصدرت كتيبًا عن البث الاذاعي.&
وتعتبر ماثيسون، التي توفيت عام 1940 عن 52 عامًا، من أكبر الرواد المؤسسين في بي بي سي. وما زال تأثيرها محسوسًا في القناة الاذاعية الرابعة. وكتبت ماثيسون أن البث الاذاعي في مرحلة الطفولة، يمكن مقارنته بأكثر الخرابيش بدائية على جدران انسان الكهف المظلمة، وبالأصوات الحلقية التي كانت اول كلمات نطقها الانسان القديم. ومما اورثته ماثيسون لبي بي سي طاقتها وتفاؤلها وايمانها الذي لا يتزعزع بالقيمة الشعبية والمدنية "لهذه الضوضاء الجديدة"، كما وصفت صوت الاذاعة. حين توفيت ماثيسون، قيل في نعيها انها كانت "خادمة للدولة بأسمى المعاني نبلًا".&
&
التعليقات