بعد ثورتين لا يزال مواطنون مصريون يبحثون عن فسحة من الحرية تحفظ لهم كرامتهم وحقهم في ممارسة معنقداتهم من عدمها بلا خوف، ولا يزال الإجهار بالإلحاد يستدعي إيقاف صاحبه وسجنه بتهمة الإساءة إلى الأديان السماوية، وها هو كريم البنا ينتظر اليوم نتيجة طعن قدمه أمام القضاء على حكمه بالسجن 3 سنوات بتهمة ازدراء الإسلام.


القاهرة: يعيش الطالب المصري الملحد كريم البنا في خوف وقلق عارمين خشية أن يتكرر سجنه إذا رفض القضاء الاثنين طعنًا قدمه على حكم بالسجن ثلاث سنوات، صدر ضده بعد إدانته بازدراء الإسلام على فايسوك.
&
يقول البنا، ذو الوجه الطفولي والذقن الخفيفة، في مقابلة مع فرانس برس، في منزله المتواضع في ضاحية شعبية شرق الأسكندرية: "هم يحاكمونني فقط لأنني ملحد. لم أهن الإسلام، ولم أسيء إليه، فهم يعتبرون الإلحاد نفسه إزدراء للدين الإسلامي".
&
تعددت الأحكام الصادرة في مصر أخيرًا بحق شباب جهروا بإلحادهم في مجتمع متدين ومحافظ، إذ يظل الحق في "حرية الاعتقاد" مجرد حبر على ورق الدستور المصري، الذي يكفل هذا الحق صراحة ومن دون مواربة. ويعتبر عموم المصريين أن الملحدين كافرون، وهو أمر مستهجن من المسلمين والمسيحيين، بل إن أسرهم تشعر بالحرج، وتحاول مراجعتهم دينيًا، وإن لم تفلح فإنها تتبرأ منهم أمام المجتمع.
&
حرية شكلية
ورغم إباحة الدستور المصري لحرية الاعتقاد، فإن القوانين تجرّم إهانة الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، وهو ما يُستخدم لملاحقة الملحدين، خاصة إذا كانوا مسلمين. وأدانت المحاكم المصرية 27 من أصل 42 متهمًا بتهمة ازدراء الأديان في الفترة بين العام 2011 و2013، بحسب حصر أجرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهي منظمة حقوقية مصرية.
&
وصدر حكم بالسجن ثلاث سنوات على البنا (22 عامًا) الطالب في كلية الهندسة بتهمة ازدراء الإسلام على فايسبوك، لكنه دفع كفالة ألف جنيه (قرابة 130 دولارًا أميركيًا) لإخلاء سبيله، بانتظار جلسة الاستئناف المقررة في 9 آذار/مارس الجاري. وإذا ما جرى تأكيد الحكم، فسيضطر البنا لتنفيذ عقوبة السجن مع حقه في الطعن على الحكم أمام محكمة النقض. ومنذ خروجه من السجن في كانون الثاني/يناير الفائت، يعيش البنا في عزلة حقيقية وخوف شديد من تكرار تجربة سجنه التي استمرت 55 يومًا.
&
هاجس السجن
يتذكر البنا، الذي يرتدي معطفًا جلديًا أسود، ويدخن بشراهة، بعدما انفجر باكيًا واحمّر وجهه، فترة سجنه "كنت أعيش في قبر. لا نعرف الليل من النهار" قبل أن يضيف وفي صوته حشرجة وهو يخفي وجهه بكفيه "مرعوب أدخل السجن تاني. السجن في مصر ذلّ ومهانة". أضاف معبّرًا عن إحساسه بالقهر "اضطررت لأن أصلّي بانتظام في السجن وأن أقرأ القرآن، كي أسلم من الاضطهاد في السجن".
&
ومثل شباب آخرين ملحدين، يقول البنا إنه لا يسعى إلى نشر الإلحاد، لكن المجتمع والدولة يلاحقانه، ويتساءل "هل سأعاقب لأني لا أشعر بوجود إله. كنت أتمنى أن يعاملني المجتمع كإنسان". وقال شباب وصفوا أنفسهم بأنهم ملحدون في مقابلات مع فرانس برس إنه من الصعب مواجهة أسرهم والمجتمع بالأمر. يسترجع البنا بألم وحسرة كيف شهد والده ضده في المحكمة "قال إنني لديّ أفكار ضد الدين. كان يخلي مسؤوليته عني اجتماعيًا".
&
أوقف البنا مع صديق له حكم أيضًا عليه بالحكم نفسه إثر مشاجرة في بلدته أدكور في محافظة البحيرة في شمال مصر، قال إنه تعرّض فيها للضرب والإهانة، وقال أحدهم للجموع "أحرقوه فهو كافر!".
&
وذهب البنا إلى مركز شرطة أدكور ليشكو جيرانه، لكنهم احتجزوه لمحاكمته، وفي زنزانته، التي قال إنها كانت تحت الأرض ومضاءة بمصباح من الخارج، يقول البنا "بدأ أنه لا حياة لي في مصر سوى في السجن" المصير المظلم الذي يخشاه البنا، ويحاول آخرون تفاديه بشتى الطرق.
&
حياة موازية
وفي مقهي راق في وسط القاهرة قرب ميدان التحرير قبلة الثورة التي أطاحت الرئيس مبارك في 2011، تقول الصيدلانية العشرينية شيماء، وهو اسم مستعار اختارته خشية التعرف إليها، إن الحريات التي أطلقتها هذة الثورة كانت الشرارة التي جعلتها تفكر في الأديان، وانتهت بها لعدم الاعتقاد بوجود إله. لكن شيماء (29 عامًا) التي تربت في أسرة مسلمة محافظة، تقول بصوت خافت بالكاد يُسمع "أنا لا أعلن أني ملحدة. أسرتي تتشاجر معي بخصوص تأدية الصلاة، فما بالك لو علموا أني ملحدة".
&
هذه المخاوف من الأسرة والمجتمع جعلت شيماء تعيش بشخصيتين مختلفتين حتى في العالم الافتراضي "حساب على فايسبوك للأهل وزملاء العمل، وآخر أكون عليه أكثر تحررًا لأصدقائي المنفتحين". وتخطط شيماء للزواج بصديقها الملحد بشوي، وهو أيضًا اسم مستعار للشاب الثلاثيني، الذي هجر المسيحية. وأضافت مبتسمة، وهي تشبك يدها بيد صديقها، "في رمضان عليّ أن أتناول الطعام نهارًا سرًا بعيدًا عن الأعين. أشعر بأني لا بد أن أغادر مصر".
&
حملات دينية
ويعد الملحدون من "الأقليات الأقل تمتعًا بالحماية في مصر"، بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، التي قالت إن على السلطات المصرية "التوقف عن ملاحقة الأشخاص بتهمة الإلحاد". وتبنت مصر أخيرًا إجراءات للحد من انتشار الإلحاد بين الشباب، بينها تنظيم ندوات في المساجد. كما أعلنت دار الإفتاء المصرية أن عدد الملحدين المصريين 868 ملحدًا من دون تقديم أي أسانيد للرقم.
&
لكن شابًا كان يعتنق المسيحية قبل أن يلحد قال ضاحكًا "عددنا أكبر من ذلك بكثير، لكننا لا نجهر بإلحادنا". وحين سئل عن ازدياد ظاهرة الإلحاد في مصر، قال أحمد ترك المسؤول في وزارة الأوقاف لفرانس برس "الدولة أبدًا لم تكن كافرة. هذه بلاد مسلمة، والمصريون مسلمون ورعون". المفارقة أن البنا كان محبًا لجماعة الإخوان المسلمين ومؤيدًا لمرسي، لكنه يقول "شعرت بأن الدين يستخدم لإشعال حرب اجتماعية وطائفية، فنفرت من الدين ومن كل شيء".
&
وقال البنا فيما كان أذان الظهر يرتفع في المكان من حوله "أنا بين اختيارين، إما أن أحترم ذاتي وأعيش بأفكاري، وبالتالي أواجه الاضطهاد والسجن، أو لا أحترم ذاتي، وأظهر تدينًا غير موجود داخلي شكلًا فقط لأنجو بنفسي". لكنه عاد وأجاب عن تساؤله بهدوء وبلا تردد "خياري دومًا أن أحترم ذاتي".
&
وفي الطريق من منزله للبحر، حيث تنتشر آيات قرآنية على الحيطان، وفيما كان يحاول أن يسرع الخطى، لتفادي نظرات جيرانه، قال البنا بإحباط ويأس "كل ما أريده الآن أن أغادر مصر. لا مجال للحياة هنا مطلقًا للملحدين".

وكانت الصفحة الرسمية للإجهار بالإلحاد على فايسبوك قد جذبت مصريين وعربًا كثرًا، إذ أعلن من منبرها أكثر من 400 عن عدم انتمائهم إلى أي دين، إلا أنها تلقت العديد من التبليغات حولها لإدارة فايسبوك، ما عرّضها لـ"عقوبة" الإغلاق، ففتحت صفحة جديدة بالاسم نفسه لكنها لقيت المصير نفسه في مجتمعات يعتبر الإجهار بالإلحاد وقاحة وإساءة إلى القيم والتقاليد.

وفي العام الماضي قررت نيابة الدخيلة في غرب الإسكندرية، إخلاء سبيل المواطن أحمد حرقان، الذي ظهر مع الإعلامي طوني خليفة، في قناة القاهرة والناس، معلنًا عن إلحاده وزوجته سالي حرقان، وصديق لهما يدعى كريم من سراي النيابة، بعد قيام العشرات من الأهالي، بإلقاء القبض عليهم في منطقة البيطاش واقتيادهم لقسم شرطة الدخيلة.

وقام حرقان باتهام ضباط مباحث القسم بالاعتداء عليه وضربه هو وزوجته وصديقه داخل القسم وسبهم وتعذيبهم، وتركهم داخل الحجز وتعرّضهم لاعتداء المساجين الجنائيين.

&