نادراً ما نكتشف الحقيقة، بل نقوم بتنزيلها على الانترنت وبتحميلها ايضاً، فمع كل نقرة على الفأرة وضربة على لوحة المفاتيح نقتطع جزءًا من أنفسنا، ونُطعم به وحشًا معلوماتيًا لا يتوقف عن طلب المزيد.

قال دونالد ترامب في خلال مناظرة أخيرة بين مرشحي الحزب الجمهوري إن غريمه تيد كروز "كذاب". ويعتقد ترامب أن كثيرًا من الناس كذابون، ولا سيما السياسيين منهم، فجيب بوش برأيه "كذاب"، والصحافيين "مخدرون".

وبسبب إكثار ترامب من توجيه تهمة الكذب إلى كل من لا تروق له مواقفه، أُطلق عليه لقب "كاشف الكذب البشري". وسمَّته فرق تقصي الحقائق في صحف نيويورك تايمز وواشنطن بوست وبوليتيفاكت "بينوكيو الكذاب". وخاطب ماركو روبيو ترامب في مناظرة شباط (فبراير) الماضي فائلًا: "أنت كذاب". وحاول كروز أن يدلو بدوله ملاحظًا أن روبيو سماه هو ايضا كذابًا.&

تراشق بالكذب

من جهة، ليس هناك ما هو جديد في تبادل المرشحين الاتهامات وتراشقهم بصفة الكذب، إذ أصر مؤيدو اندرو جاكسون في عام 1842 على "أن الجنرال جاكسون عاجز عن الخداع". وكتبت صحيفة جمهورية عن لنكولن في عام 1860: "صفة ابراهام الصادق تُستخدم عادة بين جميع الطبقات في الينوي". والتغريدة التي تقول عن ترامب "اكذوبة" لا ترتقي في بلاغتها إلى مستوى السهام التي وُجهت إلى مؤيدي جون آدمز، الذي قال أنصار جيفرسون إنه غارق "في كل صنف من أصناف الخداع الشرير يمكن للقلب البشري في دَرَكه الأسفل أن يمارسها".&

خلال موسم انتخابي حشدت حملة اوباما فيه ما يُسمى "فريق الحقيقة" للاشارة إلى تشويه رومني للحقائق، تساءل اعلان لحملة ميت رومني: "حين لا يقول رئيس الحقيقة كيف نستطيع أن نأتمنه على القيادة".&

قبل ذلك، أُطلقت على ريتشارد نكسون صفة "الرئيس المحتال". وأفلت فورد وكارتر وجورج بوش الأول من تهمة الكذب، لكن اعلانًا لحملة بوب دول عام 1996 اتهم بيل كلنتون بأنه "كذاب جيد بصورة استثنائية". وقيل الشيء نفسه عن هيلاري كلنتون التي سمّاها وليام سفاير "كذابة بالفطرة". ويشير إعلان لحملة بيرني ساندرز اليه تحديدًا على انه "قائد صادق"، وكان مؤيدوه أقل انضباطًا حيث هتفوا خلال اجتماع انتخابي في آيوا مرددين عن هيلاري كلنتون "انها كذابة!".

جديد الظاهرة

من جهة أخرى، ثمة جديد في هذه الظاهرة. عندما هتف عضو في الكونغرس "أنت تكذب!" خلال كلام اوباما قبل جلسة مشتركة في عام 2009، كان هذا على سبيل المثال شيئًا جديدًا. وحملة المعلق السياسي جون اوليفر على تويتر لا شبيه ولا سابق لها في الانتخابات الاميركية. وأعلن اوليفر في مقابلة تلفزيونية أن ترامب "كذاب متسلسل يميل إلى رفع الدعاوى القضائية"، وتحداه أن يقاضيه.

الجديد ايضًا خطابية اللاواقع والاصرار، لا سيما من جانب الديمقراطيين، على أن بعض السياسيين غير قادرين على إدراك الحقيقة لأنهم يعانون نقصا معرفيا: لم يعودوا يؤمنون بالأدلة أو حتى بالواقع الموضوعي.&

لوصف هذه الظاهرة، ينهل الديمقراطيون في أحيان كثيرة من ينبوع جورج اورويل: "الماضي مُحي والممحي نُسي والاكذوبة اصبحت الحقيقة". ولدى حملة هيلاري كلنتون اعلان يدعو إلى "الدفاع عن الحقيقة". وهي تقول "ما أنا إلا جدة ذات عينين ومخ"، وهو قول في منتهى الغرابة إن صدر عن سيدة اولى سابقة وعضو سابق في مجلس الشيوخ ووزيرة خارجية سابقة. لكن ما تعنيه انه حتى العجوز، أي عجوز، تستطيع أن ترى ما لا يراه المرشحون الجمهوريون الطامحون في الوصول إلى المكتب البيضاوي، لا سيما في قولها عن المرشحين الجمهوريين: "من الصعب التصديق بأن هناك اشخاصا مرشحون لمنصب الرئيس ما زالوا يرفضون قبول العِلم الثابت للتغير المناخي".

تجربة غير استثنائية

الماضي لم يُمحَ، وما مُحي لم يُنسَ، والاكذوبة لم تصبح حقيقة. وفي النهاية فإن جوهر المسألة هو الآتي: إن تاريخ الحقيقة تاريخ في منتهى الغرابة وفي الآونة الأخيرة أخذ يزداد غرابة بالارتباط مع السياسة الاميركية.&

كثير مما يُكتب عن الحقيقة هو من عمل فلاسفة يشرحون أفكارهم بسرد قصص صغيرة عن تجارب يجرونها في رؤوسهم، كما حاول ديكارت أن يقنع نفسه بأنه غير موجود، واكتشف انه لا يستطيع ذلك، ليثبت بذلك انه موجود.&

من فلاسفة الحقيقة اليوم مايكل لينتش، وكتابه الأخاذ الجديد "انترنتنا نحن: معرفة المزيد وفهم الأقل في عصر المعلومة الكبيرة"The Internet of Us: Knowing More and Understanding Less in the Age of Big Data، يبدأ بتجربة فكرية: "تخيلوا مجتمعًا تكون فيه الهواتف الذكية مصغَّرة ومربوطة مباشرة بدماغ الشخص".&

هذه التجربة ليست استثنائية، إذ وعد لاري بايج أحد مؤسسي غوغل: "في النهاية سيُزرع فيك جهاز بحيث إذا فكرت في حقيقة ما سيعطيك هو الجواب". والآن، تخيلوا أن الأشخاص بعد أن يعيشوا أجيالًا مع هذه الأجهزة المزروعة فيهم، سيصبحون معتمدين عليها في معرفة ما يعرفونه وينسون كيف كان البشر يفكرون في السابق - بالملاحظة والبحث والعقل. ثم تصوروا الآتي: "بين ليلة وضحاها تدمر كوارث بيئية الكثير من شبكات الاتصالات الالكترونية على كوكب الأرض بحيث تنهار كل الأجهزة المزروعة في أجسام البشر".

أنا غوغل

يقول لينتش إن هذا سيكون كما لو أن العالم كله يُصاب فجأة بالعمى. ولن يكون هناك أساس مباشر لإثبات حقيقة ما عليه. ولن يعود أحد يعرف شيئًا في الحقيقة لأن لا أحد سيعرف كيف يعرف. فأنا غوغل، إذًا أنا غير موجود.

يعتقد لينتش في كتابه اننا قريبون إلى حد مخيف من هذا الوضع: "كعميان عن الدليل، لم نعد قادرين على أن نعرف بل نحن فعلًا لم نعد قادرين على أن نتفق على كيف نعرف (كما في الخلاف على التغير المناخي)". ولا يهتم لينتش كيف وصلنا إلى هذا الوضع بل يبدأ من بوابة الوصول، لكن تغيير مسار الرحلة يتطلب العودة إلى بوابة المغادرة.&

المؤرخون لا يعتمدون على التجارب الفكرية لشرح افكارهم ولكنهم يحبون القصص الصغيرة. لم تصبح الحقيقة شيئًا يمكن التأكد من صحته إلا بعدما ألغت الكنيسة عمليًا مبدأ المحاكمة بالمحنة في عام 1215، يوم تعهد الملك جون في مانغا كارتا (الميثاق الكبير) بألا يُعتقل انسان حر أو يُسجن إلا بموجب القانون. وفي انكلترا، أدى إلغاء المحاكمة بالمحنة إلى اعتماد طريقة المحاكمة بهيئة محلفين في القضايا الجنائية. وكان هذا يتطلب اعتماد مبدأ جديد يقوم على الدليل وطريقة جديدة تقوم على التحقيق، وأدى إلى ما سمته المؤرخة باربرا شابيرو "ثقافة الحقيقة"، أي الفكرة القائلة إن الفعل أو الشيء الذي يُلاحظ أو يُشاهد - جوهر الحقيقة أو ما ماهيتها - هو أساس الصدق، وهو النوع الوحيد من الأدلة المقبولة ليس في القضاء فحسب بل في مجالات أخرى تكون الحقيقة موضع تحكيم فيها. وبين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر انتشرت الحقيقة من القانون إلى العلم والتاريخ والصحافة.&

أمر ملتبس

اعتقد المفكرون التجريبيون انهم استنبطوا طريقة يستطيعون أن يكتشفوا بها عالمًا من الحقيقة هو المعرفة المحايدة التي يمكن التحقق من صحتها. لكن انتقال المحاكمة من الله إلى البشر أحدث فوضى معرفية واتضح أن البشر لم ينظروا كلهم&إلى هذا الانتقال على انه تطور نحو الأحسن.&

على امتداد القرن الثامن عشر وشطر كبير من القرن التاسع عشر، بدا أن هناك امكانًا أكبر لمعرفة الحقيقة، لكن الأمر اصبح ملتَبَسًا بعد ذلك. في منتصف القرن العشرين، التقت الأصولية وما بعد الحداثوية، اليمين الديني واليسار الأكاديمي: إما الحقيقة الوحيدة هي الحقيقة الإلهية أو ليس هناك حقيقة. المدرسة التجريبية مخطئة بنظر المعسكرين، ولم تنته قط هذه الفوضى المعرفية. فالكثير من الخطاب المعاصر ومن السياسة الاميركية اليوم إنما هو نزاع على الحقيقة. وما تشترك به المناظرات الرئاسية الاميركية مع مبدأ المحاكمة بالقتال في القرون الوسطى أكثر بكثير مما تشترك به مع مبدأ المحاكمة بهيئة محلفين.

تحميل الحقيقة وتنزيلها

ثم جاءت الانترنت ومعها بدأت نهاية حقبة الحقيقة. فالموقع الذي كانت تشغله "الحقائق" في السابق تسيطر عليه الآن "المعلومات".

يُحدث هذا مزيدًا من الخراب المعرفي لأسباب ليس أقلها أن جمع الحقائق وتمحيصها يتطلب بحثًا وفهمًا ومحاكمة في حين أن جمع المعلومات وتحليلها يُناط اليوم بالآلات.&

يقول لينتش في كتابه "إنترنتنا نحن" الذي يراجعه جيل ليبور في مجلة نيويوركر "إن غالبية المعرفة الآن هي معرفة غوغل، معرفة مكتَسبة على الانترنت". اختار لينتش عبارة "انترنتنا نحن" عنوانًا لكتابه ردًا على "انترنت الأشياء"، منظومة غوغل لتناقل المعلومات من دون تفاعل بين الانسان مع الانسان أو الانسان مع الآلة. يلاحظ لينتش أننا الآن نادرًا ما نكتشف الحقيقة، وبدلا من ذلك نقوم بتنزيلها. نقوم طبعًا بتحميلها ايضًا. ونحن بكل نقرة على الفأرة وضربة على لوحة المفاتيح نقتطع جزءًا من أنفسنا ونُطعم به وحشًا معلوماتيًا لا يني يقول هل من مزيد.&

وبحسب لينتش، لم تخلق الانترنت المشكلة لكنها ضخمتها. وبصرف النظر عن حجم المعلومات وضخامة الشبكة وحرية التعبير، لا شيء أقل ابهامًا في القرن الحادي والعشرين مما إذا كان انسان اليوم يعرف ما يعرف عن إيمان أو بناء على حقائق، أو إذا كان بالامكان القول إن من الممكن إثبات كل شيء بصورة تامة.

تعليل عقلي

يرى لينتش أن أصل المشكلة مفارقة معروفة، هي أن العقل لا يستطيع أن يدافع عن نفسه من دون اللجوء إلى العقل. وفي كتابه "الحمد للعقل" الصادر في عام 2012، حدد لينتش ثلاثة مصادر للشك في العقل: الشك في أن يكون كل تعليل عقلي عقلنة، وفكرة أن العلم ما هو إلا دين آخر، وفكرة الموضوعية وهم. لهذه الأفكار تاريخ محدد وهي لم تفقد شيئًا من قوتها. ويرى لينتش أن عواقب هذه الافكار عواقب وخيمة حيث يكتب: "من دون أرضية مشتركة من المعايير التي نقيس بها ما يُعتبر مصدرًا موثوقًا للمعلومات أو طريقة موثوقة للبحث، وما يُعد خلاف ذلك، لن نكون قادرين على الاتفاق على الحقائق، ناهيكم عن القيم. وهذا على وجه التحديد هو الوضع الذي نبدو سائرين نحوه في الولايات المتحدة".&

يقول لينتش إننا حين نكتسب معارفنا من غوغل لا نعود مسؤولين عن معتقداتنا ونفتقر إلى القدرة على أن نرى كيف أن نتفًا من الحقائق تدخل في كلٍ أكبر. ومن حيث الأساس، فإننا نتنازل عن عقلنا وعن مواطنتنا.&

نستطيع أن نرى كيف يحدث ذلك في كل مرة نحاول أن نصل إلى فحوى قصة أو تقرير بقراءة الأخبار على هاتفتا الذكي. وفي الولايات المتحدة رأى الاميركيون كيف يحدث ذلك عندما قال ماركو روبيو في احدى المناظرات بين المرشحين الجمهوريين أن ترامب كان يشغّل عمالًا بولنديين ومهاجرين غير قانونيين، فرد عليه ترامب: "أنت كذاب".

في الساعة التي أعقبت تلك المناظرة، سجل محرك غوغل زيادة 700 في المئة في عمليات البحث عن مصطلح "عمال بولنديين".