على الرّغم من حملة إردوغان على الصحافة المعارضة ونزعاته التسلطية التي يبدو معها سلطانًا أكثر منه زعيمًا ديمقراطيًا، فإنّ الرئيس التركي اصبح اليوم من أهم السياسيين في اوروبا، بل قد يكون الأكثر أهمية بينهم. والسبب هو اعتماد الاتحاد الاوروبي على إردوغان. فمن دون تركيا سيبوء الحل الاوروبي لأزمة اللاجئين بالفشل.
لم يبق لدى جليل صغير الكثير مما يفقده. فهو أُقيل من وظيفته في 28 آذار/مارس، ويستطيع الآن أن يتحدث عمّا يجري في تركيا وما يحدث عندما يتحكّم فرد واحد بمصائر بلد.&
كان صغير مدير تحرير صحيفة تودايز زمان الناطقة بالانكليزية، شقيقة صحيفة زمان المعارضة واسعة الانتشار في تركيا، قبل أن تدهم قوات الشرطة مكاتب الصحيفتين وتضع رقباء على ما يكتبه المحررون للعدد المقبل.&
يقول صغير إن حرية الصحافة لا تعني حرية التعبير فقط، بل تعني الديمقراطية أيضًا. وأشار إلى أن الكثير من ناشطي المعارضة الذين يستطيعون مغادرة تركيا غادروها، بينهم أكاديميون ومثقفون ورجال أعمال. واضاف صغير أن هؤلاء كانوا خائفين من المداهمات والاعتقالات ومن ملاحقتهم بتهمة الارهاب والخيانة.&
الديمقراطية كالقطار !
وقال صغير لمجلة شبيغل الألمانية إنه سيغادر تركيا لو أمكنه ذلك، ولكن لديه ثلاثة أبناء، وانه حاول الاستمرار في العمل لأنه لا يريد صحيفته أن تموت وأراد أن يبيّن لأطفاله انه لم يستسلم. ولكن صغير فقد الأمل بأن تكون تركيا بلدا حديثا منفتحا لأن الأوضاع تسير مثلما أراد لها الرئيس رجب طيب اردوغان حين قال "ان الديمقراطية كالقطار، تنزل منه حين تصل الى وجهتك".
ورغم حملة اردوغان على الصحافة المعارضة ونزعاته التسلطية التي يبدو معها سلطانا أكثر منه زعيما ديمقراطيا فان الرئيس التركي اصبح اليوم من أهم السياسيين في اوروبا بل قد يكون الأكثر أهمية بينهم. والسبب هو اعتماد الاتحاد الاوروبي على اردوغان. &فمن دون تركيا سيبوء الحل الاوروبي لأزمة اللاجئين بالفشل ولن يعرف الاتحاد الاوروبي كيف يتعامل مع مئات الآلاف المتدفقين على بلدانه من سوريا وافريقيا.
&ومنذ الاتفاق مع تركيا في اطار الحل أظهر إردوغان حجم ما يتمتع به من سطوة. فاستُدعي في البداية السفير الالماني مارتن ايردمان بشأن توزيع منشورات عن ابادة الأرمن في ولاية سكسونيا آنهالت. ثم اعربت انقرة عن امتعاضها من برنامج ساخر تناول اردوغان من بين آخرين على قناة ان دي آر التلفزيونية الالمانية. واستُدعي السفير ايردمان مرة اخرى. وأبدت انقرة استياءها مجدّدًا عندما حضر دبلوماسيون غربيون محاكمة اعلاميين من صحيفة "جمهوريت".&
واتصل وزير الدولة الالماني للشؤون الخارجية ماركوس ايردر بنظيره التركي ليشرح له موقف المانيا من حرية الرأي. وبعد يوم اطلق وزير الخارحية فرانك فالتر شتاينماير تصريحا قال فيه إن المنتظر من بلد شريك للاتحاد الاوروبي "ان يشاركنا قيمنا الاوروبية" ولكنه تجنب انتقاد اردوغان مباشرة.&
"لا يمكن ان نبقى صامتين"
من جهة أخرى قالت اريكا شتاينباخ، المتحدثة باسم النواب المحافظين لشؤون حقوق الإنسان، إن الرئيس التركي يريد ان يُري اوروبا انه زعيم لا غنى عنه ويستطيع ان يفعل ما يريد. واضافت "نحن لا يمكن ان نبقى صامتين".&
كما فقد اردوغان الكثير من الاحترام في واشنطن ، بحسب مجلة شبيغل مشيرة الى ان البيت الأبيض رفض ان تُلتقط صور يظهر فيها اردوغان مع الرئيس اوباما كما جرت العادة. فالبيت الأبيض ينظر الى التطورات الراهنة في تركيا بعدم ارتياح وخاصة حملات اردوغان على الصحافة ودهم مكاتب صحيفة زمان. ويبدو ان اردوغان بالغ في تقدير أهميته للولايات المتحدة، ولا سيما أنّ الاميركيّين يستخدمون قواعد في تركيا لتوجيه ضربات جوية ضد داعش في سوريا.&
ولكن من المستبعد ان ينجح فتور واشنطن مع اردوغان في التخفيف من غلوائه بل على العكس. فخلال مأدبة عشاء مع مستشارين سياسيين في واشنطن لم تكن وقائعها للنشر، شتم سياسات اوباما تجاه سوريا والدعم الأميركي للأكراد. ويحمل عناد اردوغان رسالة الى الداخل يقول فيها للناخبين انه لا ينحني امام أحد.&
ويرى مراقبون أن اردوغان قوي لأن اوروبا ضعيفة. فإنّ زعماء الاتحاد الأوروبي لم يتمكنوا من التوصل إلى اتفاق على حل ناجع لأزمة اللاجئين ولهذا السبب يحتاجون اليه، لا سيما المستشارة الالمانية انغيلا ميركل. وبسبب هذا الفشل يحتاج الاتحاد الاوروبي إلى احد يقوم بالمهمة القذرة المتمثلة بمنع اللاجئين من الوصول الى اوروبا وإعادتهم. واردوغان هو هذا الشخص. "ومن يأخذون على عاتقهم العمل القذر لا يميلون الى ان يكونوا مهذبين بصفة خاصة"، على حد تعبير مجلة شبيغل، مضيفة "أن هذا هو مأزق اوروبا وميركل سلمت الاتحاد الاوروبي بيد رجل كثيرًا ما يتصرف وكأنة بلطجي، رجل يقمع المعارضة ويقيم حكمًا اوتوقراطيًّا، وهو سياسي شنّ حربًا دمويّة على الأكراد لكي يفوز بالانتخابات من بين اسباب اخرى".&
الورقة القوية
ويدرك الرئيس التركي تمامًا الورقة القوية التي وضعتها ازمة اللاجئين بيده ولم يخف استعداده لاستخدامها. ففي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي هدد رئيس المفوضية الاوروبية جان كلود يونكر قائلا "اننا نستطيع ان نفتح الأبواب على اليونان وبلغاريا في أي وقت، ونستطيع ان نضع اللاجئين على متن حافلات".
وساعد هذا المنطق في التعامل مع الآخرين بوصفهم اما اصدقاء أو اعداء على بقاء اردوغان في أصعب الأزمات. ولكنه تسبب بانقسام المجتمع التركي. ويحكم البلاد الآن فرد معزول، يركب رأسه ويفقد ببطء استيعابه للواقع. ولعل هذا ناجم عن عدم بقاء احد في حلقته يجرؤ على الاختلاف معه أو تحذيره من خطأ حساباته السياسية. وهذا نظام أوجده هو نفسه ولكنه نظام ليس فيه رقيب ولا حسيب على الحاكم. &
ولكن دافع اردوغان للبقاء في الحكم يتعدى رغبته في الاحتفاظ بالسلطة. وقال سياسيون معارضون ان تنحيته لأي سبب تعني اعاة فتح ملفات الفساد ومن الجائز ان ينتهي المآل بالرئيس وافراد عائلته وراء القضبان. وهذا سبب آخر لاحكام قبضته على البلاد وصنع عبادة شخصية حوله.&
ويقوم نجاح اردوغان في ذلك على ركنين هما الدين والنمو الاقتصادي. وبعد ان كانت السياسة والاقتصاد قبل ذلك بيد الكماليين، يُسجل لصالح اردوغان انه اجرى اصلاحات اقتصادية واسعة باتجاه الاقتصاد الحر. وشهد عهد خصخصة المؤسسات العامة الكبيرة مثل الموانئ والمطارات وشركات الطاقة ، وانبثاق صناعات جديدة.&
قمع للصحافة
وفي السنوات الأولى من حكم اردوغان حقق اجمالي الناتج المحلي نموا بمعدل 9 في المئة سنويا. ونشأت طبقة وسطى جديدة تحمد اردوغان على صعودها وتمنحه تأييدها نتيجة ذلك. وممن حققوا نجاحا باهرا في ظل هذا النمو محمود هيجيلماز الذي يملك معامل حديد وصلب وبصفته رئيس غرفة التجارة المحلية في منطقة قيصري وسط الاناضول يمثل نحو 17 الف شركة كثير منها ما كانت لتوجد لولا اردوغان.&
وقال هيجيلماز لمجلة شبيغل إن اردوغان وحزب العدالة والتنمية دفعا البلاد إلى الأمام وأعطيا الاتراك ثقة جديدة بالنفس وانهما استثمرا في البنية التحتية ببناء الطرق والجسور التي ربطت بين المدن وعبدت طريق التجارة.
تفسر اصول اردوغان المتواضعة نفوره من المثقفين. وحين طالب اكاديميون بإنهاء العنف في جنوب شرق تركيا قبل ثلاثة اشهر أهانهم اردوغان بوصفهم "من الرعاع الجهلة" و"الخونة". واتُخذت اجراءات انضباطية بحق 109 علماء أُقيل 15 منهم واعتُقل 36 آخرون.&
ويتعرض الصحافيون الذين ينتقدون حكومة اردوغان إلى التهديدات اولا ثم يُحالون على القضاء، كما حدث مع جان دونبار رئيس تحرير صحيفة جمهوريت المعارضة، بتهمة التجسس التي يمكن ان تصل عقوبتها الى السجن مدى الحياة.&
وكانت صحيفة جمهوريت نشرت صورا فوتوغرافية واشرطة فيديو تسند الاتهامات القائلة إن الاستخبارات التركية مدت جماعات اسلامية متطرفة في سوريا بالسلاح والعتاد. وقدم اردوغان نفسه شكوى ضد الصحافيين. وحين افرجت المحكمة الدستورية عنهم قائلة إن توقيفهم قبل المحاكمة ينتهك حقهم في الحرية والأمن استشاط اردوغان غضبا واعلن "سأقول هذا علنا وبوضوح ، فأنا لا أقبل بالقرار ولن أُطيعه". وهدد بأنّ تكرار مثل هذه القرارات سيضع شرعية المحكمة موضع تساؤل.&
قوانين الشارع وقواعد ارصفة الموانئ والتفكير بمفردات الصديق والعدو كلها جعلت اردوغان يضل طريقه في نزاعين كبيرين تشهدهما المنطقة: في سوريا والمناطق الكردية، بحسب مجلة شبيغل قائلة ان اردوغان رمى ثقله وراء جماعات اسلامية معارضة بينها تنظيم الدولة الاسلامية "داعش". وحتى عندما بدأ مقاتلو المعارضة الوطنية السورية والأكراد يحاربون داعش جنبا الى جنب بدافع الضرورة استمر المسؤولون الأمنيون الاتراك في تجاهل عناصر داعش المارين عبر بلدهم.&
وكان "جهاديون" من سائر أنحاء العالم يهبطون في مطار اسطنبول قبل عبور الحدود بلا معوقات الى سوريا بل انهم مدّوا جذورًا حتى في تركيا نفسها، بحسب مجلة شبيغل.&
خطة لتدمير كل شيء !
وفي المناطق الكردية استأنفت قوات الجيش والشرطة عملياتها ضد الأكراد وكان اردوغان الرابح من هذه الحرب الأهلية التي لا طائل منها. وفرضت السلطات حظر التجوال على مدن عديدة في المنطقة وطوق جنود مدججون بالسلاح احياء أو قرى كاملة مثل بلدة نصيبين الحدودية حيث كل من يخرج خلال ساعات حظر التجوال يُعدّ إرهابيًا يجوز قتله.&
وقال برلماني من حزب الشعب الديمقراطي لمجلة شبيغل "إن لدى اردوغان خطة لتدمير كل شيء". &واضاف ان المعارضة لا تستطيع التدخل سياسيا. وعلى الرغم من فوز الحزب بنحو 11 في المئة من الأصوات خلال الانتخابات الأخيرة ولديه كتلة برلمانية كبيرة، فإنّ القمع والملاحقات اصابت الحزب بالشلل التام تقريبًا.&
إذ يتهم اردوغان حزب الشعب الديمقراطي بأنه الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني المحظور، وأعلن "ان العمليات ضد الارهاب ستستمر بحزم" عائدًا الى منطق العدو والصديق، منطق الأسود والأبيض.&
&وأشار اردوغان إلى أنّ الحكومات الاوروبية لا تفعل شيئًا لوقفه. وهو يعرف ان المستشارة الالمانية ساكتة لأنها تحتاج الى مساعدته في ازمة اللاجئين.&
التعليقات