منذ الاف السنين والتاريخ يضج بالفضائح والتسريبات التي تسببت، ولا تزال، بزلازل عنيفة في غير مكان.
لندن: لم تسفر الفضيحة التي فجرتها "اوراق بنما" عن سجن احد في معبد حتى الموت جوعا أو سحق خصيتيه في طقوس دموية، وقبلها لم تشعل تسريبات ادورد سنودن وجوليان اسانج ثورات مسلحة أو أدت الى اعدام سياسيين بخنقهم حتى الموت، لكن هذه الفظائع حدثت كلها في تاريخ التسريبات الزاخر بفصول دموية راح ضحيتها المسرّب تارة، والمفضوح بالتسريب تارة اخرى. &
كانت البداية في اسبرطة سنة 470 قبل الميلاد عندما أرسل القائد العسكري والأمير بوسانياس رسولًا يدعى ارغيليوس الى ملك فارس، لكنه ما لبث أن شعر بأن امرًا مريبًا يُبيت له، ففتح الرسالة واكتشف ان بوسانياس يعرض وقوفه الى جانب الفرس إذا هاجموا اليونان، والأكثر من ذلك ان القائد العسكري اقترح على الفرس ان يقتلوا حامل الرسالة للتوثق من ضمان السرية. &
الفضيحة الأشهر
وقرر ارغيليوس، إزاء نيات سيده الذي خطط ان تكون رحلته في طريق واحد بلا عودة، ان يسرّب الرسالة الى اسبرطة، ولأن الفرس كانوا اعداء اليونان الألداء، فإن ما فعله القائد بوسانياس كان عملًا غادرًا عاقبه الاغريق عليه عبر رميه في معبد اثينا وغلق الباب عليه بجدار دون ماء أو طعام، ويُقال ان والدته انضمت الى المواطنين الغاضبين على فعلته للتأكد من انه لن يتمكن من الفرار. &
هذا وكانت السياسة اليونانية منفتحة بالمقارنة مع الحضارة اليونانية التي اتسمت سنواتها الأخيرة بالدسائس والتسريبات، كما يقول المؤرح توم هولاند، موضحًا ان السياسيين الصاعدين كانوا يستخدمون التسريبات لتدمير غرمائهم، واصفًا ذلك بأنه "شكل حاد من اشكال الصراع السياسي على نطاق مماثل لما يحدث في عالمنا اليوم". &&
ولعل اشهر فضيحة تسريب في زمن الرومان كانت كومة الوثائق التي ظهرت على عتبة بيت ماركوس توليوس شيشرون، قنصل روما وأحد كبار فلاسفتها وخطبائها المفوَّهين.
وكان شيشرون اقتنع في عام 63 قبل الميلاد بـأن عضو مجلس الشيوخ كاتالين يخطط لانقلاب، لكنه لم يتمكن من اثبات ذلك. وكان ما وجده على عتبه داره مجموعة رسائل من حلفاء كاتالين فيها تفاصيل المخطط الانقلابي، ولم يُعرف من سرَّب هذه الوثائق، ولكن شيشرون تمكن من اقناع مجلس الشيوخ بأن الجمهورية الرومانية في خطر، وتقديرًا لجهود شيشرون سُمح له بالاشراف شخصيًا على اعدام جيمع المتآمرين خنقًا حتى الموت.&
خوف&
عاشت الامبراطورية الرومانية قرونا واستمرت بيزنطة جناحها الشرقي حتى عام 1453 عندما أسقطها العثمانيون، وعُرفت الامبراطورية العثمانية بتعددها القومي وتسامحها حفاظا على وحدة تنوعها، وكان الحراك الاجتماعي من ابرز سماتها، حتى ان عبدًا أو مخصيًا كان يستطيع الصعود الى قمة هرم السلطة. &
ولكن العثمانيين اشتهروا ايضا بالتكتم الشديد بين جدران قصورهم، وكان بعض السلاطين يستخدمون الطرشان في قصورهم لكي لا يتمكنوا من سماع ما يجري، ناهيكم على كشف ما قد تلتقطه آذانهم.&
وكانت لدى السلطان عثمان الثاني اسباب وجيهة للخوف من التسريبات، إذ قرر ضرب الانكشاريين الذين اشتد بأسهم وأصبحوا يهددون حكمه، ولكن ما بيّته لهم تسرب بطريقة ما، ثم وُجهت اصابع الاتهام لاحقا الى وزيره بوصفه المصدر. وحين عرف الانكشاريون اقتحموا قصر الباب العالي في الاستانة، وكان مصير السلطان عثمان سحق خصيته قبل قتله. &
تزامن ضعف الامبراطورية العثمانية بحيث أصبحت رجل اوروبا المريض مع ظهور الجريدة الحديثة التي اعطت بُعدا جديد لفن التسريب، وبات من الممكن الآن تسريب المعلومات للوصول الى جمهور واسع بدلا من الاقتصار على ذوي العلاقة مباشرة. &
قنابل كبيرة
ويُسجل للصحافي جون نوجنت من صحيفة نيويورك هيرالد سبق صحفي كبير حققه نتيجة تسريب، حتى اصبح من اوائل القنابل الكبيرة التي فجرتها الصحافة. ففي عام 1848 تسلم نوجنت التفاصيل السرية لمعاهدة انهاء الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك.
وادى نشر المعاهدة الى تهديدات بالسجن وجهها اليه اعضاء في مجلس الشيوخ الاميركي اودعوه رهن التوقيف مدة شهر تقريبًا، وكوفئ نوجنت بتعيينه رئيس تحرير الصحيفة. &
اوجد نوجنت سابقة ما تزال تتفاعل حتى اليوم، كما قال بول لاشمار استاذ الصحافة في جامعة ساسيكس البريطانية لـ "بي بي سي"، وأوضح لاشمار، الذي كان نفسه صحافيا استقصائيا، ان الصحافيين الذي تقع اياديهم على تسريبات يُكافأون عادة بالترفيع أو زيادة الراتب أو امتيازات مهنية أخرى، حتى إذا واجهوا تهديدات بالسجن أو ما هو اسوأ نتيجة سبقهم الصحفي. واشار لاشمار الى ان مصادر الصحافي كانت متعددة، احيانا ضابط شرطة أو موظف أو شخص في قسم الحسابات في شركة ما، بحيث يُسلم الصحافي مظروفا فيه التسريبات. &
ولكن عصر تكنولوجيا المراقبة جعل مثل هذه التسريبات نادرة، فان أي شخص يستخدم الهاتف الخلوي يمكن ان تُراقب حركاته وتنقلاته أو تصويره بكاميرات المراقبة الأمنية المبثوثة في كل مكان اليوم. وان موظفي جهاز الدولة اليوم أشد حذرا من لقاء الصحافيين لتسريب معلومات اليهم خوفا من انكشافهم.&
نقرة واحدة!
وحل تسريب الوثائق بالجملة محل الطريقة القديمة في تسليم مظروف أسمر، كما اظهر الكم الهائل من الملفات التي سُربت دفعة واحدة في فضيحة اوراق بنما بفضل التكنولوجيا الجديدة.&
وكان يتعين في التسريبات الكبيرة السابقة، مثل اوراق البنتاغون عن الحرب الفيتنامية، تصوير الوثائق باليد صفحة تلو اخرى، اما الآن فان ملفات شركة أو وزارة يمكن ان تُحمَّل كلها على قرص ذاكرة بنقرة واحدة.&
وترى الصحافية البريطانية هيذر بروك، التي تعاطت مع الكثير من التسريبات في حياتها المهنية، ان هذا الطراز الجديد من التسريب الرقمي بالجملة ظهر ليبقى. وتقول إن من الصعب الحفاظ على سرية المعلومات الرقمية ومن السهل تنزيلها، وان الذين يحفظون معلومات رقمية لا يلومون إلا أنفسهم إذا وجدوا ان معلوماتهم سُربت الى الجمهور واصبحت ملك المجال العام. &
لقد قطع العالم شوطًا بعيدًا منذ ان كان بمقدور مراسل عبد ان يحدث غليانا في اسبرطة. ولكن المعلومات ما تزال قوة بيد من يملكها، وفي مطالع القرن الحادي والعشرين اصبحت المعلومات متاحة في متناول كل يد، فمن الجندي في الجيش الاميركي برادلي ماننغ الى المحلل في وكالة المخابرت المركزية ادورد سنودن، رأينا اشخاصًا ذوي مراتب متدنية على السلم الوظيفي يضعون ايديهم على معلومات حساسة ويكشفونها للجمهور، تاركين الذين في القمة يضربون اخماسًا بأسداس. &
التعليقات