كان للفن التشكيلي دور أساسي في عملية إعادة بناء وارسو بعد حرب طاحنة بين "المقاومة البولندية" والقوات النازية، في العام 1944، فما كان من أهل العاصمة إلا بناء مدينتهم، مستعينين بلوحات رسمها فنان إيطالي. على الخطى عينها تحاول تدمر السورية السير لإعادة بناء معالمها التي دمرها داعش. &

لندن: خاضت المقاومة البولندية معارك عنيفة مع القوات النازية في صيف 1944 لتحرير العاصمة وارسو مما سمّاه الشاعر البولندي تشيسلاف ميلوش "العالم المظلم، الأسود للاحتلال النازي".&

ورغم أن المقاومة البولندية لم تكن حسنة التسليح خلال "انتفاضة وارسو" فإنها تمكنت من إنزال خسائر فادحة بالقوات النازية. لكن المدنيين دفعوا ثمنًا أكبر بمقتل 150 ألف شخص في الغارات الجوية والقتال في أنحاء المدينة.&

ثمن الثورة
انتقامًا من الانتفاضة دمّر النازيون مدينة وارسو بتسويتها مع الأرض. وأُحيل أكثر من 85 في المئة من مركز المدينة التاريخي إلى خراب. وبخلاف مدن أوروبية أخرى، كانت الأضرار التي لحقت بها نتيجة القتال، فإن وارسو دُمرت بصورة منهجية عن سابق إصرار، بعد قمع الانتفاضة، التي استمرت مدة شهرين.&

ما أعقب ذلك هو قصة اهل وارسو، وكيف أعادوا بناء مدينتهم، مستعينين بلوحات رسمها الفنان الايطالي برناردو بيلوتو، المعروف باسم كاناليتو، نسبة الى خاله الأكثر شهرة منه. &

مساهمة الرسم
وكان بيلوتو عُين رسام البلاط في بولندا بقرار من ملك بولندا في عام 1768. رسم خلال فترة عمله في البلاط لوحات جميلة لأبنية وارسو وساحاتها وازقتها. يشهد على دقة عمله استخدام لوحاته بعد نحو 200 سنة على رسمها للمساعدة على اعادة بناء مركز المدينة المدمر من ركام الخرائب والأنقاض حتى انه الآن موقع تاريخي على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. &

كان اقتراح قُدم بترك بقايا المدينة المدمرة على حالها لإحياء ذكرى الحرب، وبناء عاصمة جديدة في مكان آخر. في صيف 1947 قاد المعماري هيرمان فيلد فريقا صغيرا من المصممين الاميركيين، لدراسة اعادة بناء اوروبا بعد الحرب. وزار الفريق انكلترا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، حيث تفقدوا مدنها، وارسو وكراكوف وكاتوفيتسة وفروتسلاف وشتشيسين. وأصبحت الصور الفوتوغرافية التي التقطها الفريق خريطة طوبوغرافية للخراب بعد الحرب، تكشف حتى عن احشاء الأبنية. &

تبيّن هذه المواد الارشيفية ان وارسو لم يبق منها إلا أقبية وجدران منخفضة وبعض الطبقات الأرضية هنا وهناك. وأُحليت الأزقة التي يحف بها العشب الى خرائب شبيهة بخرائب بومباي بعد ثورة بركان فيزوف في ايطاليا. وكان سكان وارسو الذين لم يغادروها يعيشون وسط هذا الخراب، حيث كثيرا ما يجدون جثثا تحت الانقاض. ومنذ البداية استُخدمت انقاض المدينة نفسها في إعادة بنائها، بما في ذلك الشظايا الأصلية لأبنية المدينة القديمة. &

أمة تبني عاصمتها
نقلت صحيفة الغارديان عن مالغورزاتا بوبيوليك الخبير في حفظ التراث في الجامعة التكنولوجية في برلين ان انقاض منطقة الغيتو السابق استُخدمت لانتاج لبنات بناء للحي الجديد، في حين ان التفاصيل المعمارية من الأبنية المدمرة في المدينة القديمة وُضعت على الواجهات التي أُعيد بناؤها. &

واشار بوبيوليك الى مساهمة السكان المحليين في ازالة الكميات الهائلة من الأنقاض، بينما تولى عمال البناء والاختصاصيون مهمة إعادة الاعمار. وقال "ان الأمة كلها تبني عاصمتها" اصبح شعار المدينة. &

وحين لم تكن الانقاض كافية لإعادة البناء، كانت المواد المطلوبة تأتي من انقاض مدن مجاورة دمرتها الحرب. للتوثق من إعادة كل لبنة ومبنى في مكانهما الصحيح قدر الامكان، استُخدمت لوحات الرسام الايطالي بيلوتو مرجعا للمواقع الأساسية.&

وكانت لوحات بيلوتو مهمة بصفة خاصة، لأن العديد منها يوثق تاريخ بولندا، وأدرجها النازيون على القائمة السوداء الى جانب اعمال فنية أخرى ارادوا تدميرها لمحو هوية وارسو، وجعلها مدينة المانية. &

تدمر تاليًا
اتاحت لوحات بيلوتو الى جانب خبرة المهندسين البولنديين والمؤرخين الفنيين وخبراء الترميم، إعادة بناء المدينة القديمة في فترة قصيرة اثارت الاعجاب. &وأُنجز القسم الأعظم من العمل قبل عام 1955 رغم استمرار اعمال البناء الاضافية حتى اواخر الثمانينات، ويقال ان المدينة ما زالت تشعر بآثار الحرب العالمية الثانية حتى الآن. &

تتسم قصة وارسو بأهمية خاصة في عالم اليوم، حيث صور التكنولوجيا ثلاثية الأبعاد تساعد على الحفاظ على آثار معمارية قديمة رائعة لمدن، مثل تدمر في سوريا. ونقلت صحيفة الغارديان عن جون فيليبس احد مؤسسي مشروع "تدمر الجديدة" ان سيلًا من الصور الفوتوغرافية ينهال على المشروع استجابة لدعوة المبادرين اليه كل من لديه صور ان يرسلها ليتمكن فريق المشروع من جمع كميات كبيرة من البيانات والمعلومات عن المدينة وتقويم حجم الدمار الذي انزله تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" بآثار المدينة. &
&
ويمكن استخدام هذا الأرشيف الغني ذات يوم، كما استُخدمت لوحات بيلوتو في إعادة بناء وارسو. ولولا تصوير بيلوتو الدقيق لأبنية وارسو وازقتها ومعالمها لبدت العاصمة البولندية مختلفة اليوم.
&