جاءت خطة التحوُّل الوطني، التي أعلنتها الحكومة السعودية يوم 6 يونيو 2016، في وقتها. إنها خطة استراتيجية ولازمة وقابلة للتحقيق. فالرؤية الهادفة الى النجاح لا يتعهدها سوى قائد يكون رجل فعل، وأفكار وتصميم وحزم. وفي رأي الأميركيين الذين قابلوا الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي، يقولون إنه الرجل المطلوب الذي يتحلَّى بكل تلك المزايا القيادية.

هناك ملاحظات، ومواقف، وعناصر، لا بدَّ من درسها بدقة لكي ينجح التحوُّل الاقتصادي المطلوب في المملكة العربية السعودية. وها هي بعض المتطلبات الجوهرية لتكوين الثروة، وتحقيق الازدهار، وإشاعة روح الحداثة والتحديث للِّحاق بالعصر:

بالدرجة الأولى يأتي الوقت: فهو المورد الأغلى غير القابل للتجدُّد. متى فات مات. ولمعاملة الوقت بالاحترام الذي يستحقُّه لا بدَّ من تحديد الأولويات.

ثم إنَّ الأفكار والإبداع والابتكار في قرننا الواحد والعشرين هي أهم من النفط والذهب والأرض ورأس المال. والمثال الحي أمامنا البرازيل، حيث تتوفر كل تلك الموارد والسلع بوفرة هائلة، ومع ذلك فإن تلك البلاد على شفا الإفلاس لتراكم ديون ترتبت عليها بما لا يقلُّ عن تريليون دولار (ألف مليار دولار). وتشير التقديرات الموثوقة الى أنَّ أربعين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبرازيل يتأتى من الهدر الحكومي على نفقات لا مردود لها وينخرها الفساد. وارتكبت البرازيل خطأً فاضحاً آخر بأن أدرجت شركة «بتروبراس»، وهي أكبر شركة وطنية للنفط هناك، على شبكة المبادلات المالية/ نيويورك، ليسحبوا منها بعض المال. والآن يقوم رجال أعمال أميركيون بمقاضاتهم في المحاكم.

أما ألمانيا واليابان، فقد أصبحتا، خلافاً للبرازيل، قوتين اقتصاديتين عظميين بفعل العمل الشاق والجهود المضنية وتنمية واستغلال المواهب البشرية.

ومن الأمثلة التي تساق للتوضيح، أنَّ قيمة شركات إلكترونية أميركية تضم «غوغل»، و«آبل»، و«فايسبوك»، و«آي بي أم»، ومايكروسوفت»، و«إنتل»، و«ديل»، تساوي قيمة النفط السعودي بمجمله. هذه الشركات كوَّنها أشخاص يملكون الرؤية والتخطيط، وما كانت خططهم لتتحقَّق لولا وجود الأشخاص المناسبين لقيادتها وتنفيذ مخططاتها.

لقد حدَّد مؤسِّسو تلك الشركات الإلكترونية الكبرى لأنفسهم أهدافاً بعيدة المدى، وعملوا قصارى جهدهم لبلوغ تلك الأهداف. أولئك الرجال والنساء لديهم ما يسمُّونه «المعدن»، وهو مزيج من التفاني، والجهد المضني، والقدرة على التحمُّل، والمثابرة في متابعة السير سعياً وراء الأهداف البعيدة المدى.

إن القواعد المعمول بها لإدارة الأعمال وتنميتها، وخلق القيمة المضافة، لم تتغيَّر. ما زالت هي هي. لكن في كل مسعى أو مشروع اقتصادي هنالك عنصر بشري جوهري لازم لإنجاحه. فليس مهماً أن تنتج بضاعة متقنة الصنع، أو أن تكون لديك خطة للعمل، وحذاقة في التسويق. بالإضافة الى كل ذلك تبقى بحاجة الى الناس المؤهلين المناسبين لقيادة وتنفيذ تلك الخطط، قياساً على ما قاله وفعله بيل غايتس مؤسس شركة «مايكروسوفت».

فالثروة ينالها أولئك الذين يشقُّون طريقهم الى المكان المناسب في الوقت المناسب. ذلك أن المجتمع الحي المتحرك يحتاج الى أناس طامحين الى صنع الثروة «عن طريق إبداعهم ووعيهم»، حسب تعبير دايفيد بولشوفا. أو كما قال هارولد غرين، الرئيس السابق لشركة «آي تي تي» بدقة متناهية: «في الأعمال الاقتصادية الكلمات تبقى كلمات، والإيضاحات تبقى إيضاحات، والوعود تبقى وعوداً، الحقيقة الوحيدة هي الأداء».

ومن البديهي في الأحوال الاقتصادية السائدة، أن يكون التنافس هو القوة الدافعة والفاعلة لحصول نمو اقتصادي. وبإمكان المملكة السعودية أن تحقِّق نمواً اقتصادياً أكبر عن طريق إطلاق مزيد من التنافس وإفساح المجال أمام أهل المبادرات. ذلك أن أهل المبادرات من نساء ورجال هم فصيل من الناس لا يهابون الفشل في حساب المخاطر. وهذا لا يحصل إلاَّ بإشاعة مناخ تتفتح فيه الشهية الى الإبداع والابتكار، وركوب المخاطر، والمراهنة على الموهوبين وأصحاب الأفكار من الناس.

إن سرَّ الإزدهار والابتكار في أميركا يكمن في التربية والتعليم والثقافة. وفي هذا يقول الرئيس السابق لجامعة هارفارد، لورانس سامرز: تنبع عظمة هارفارد دائماً من قدرتها على التطور مع تغيُّر العالم وتبدُّل مطالبه، وذلك عن طريق تعليم كل جيل من أجيال الطلاَّب المتعاقبة إطلاق طاقاته في مجالات جديدة خلاَّقة». ولا بدَّ هنا من إبداء الملاحظة بأن اكتساب المعرفة يبدأ بمعرفة كيفية اكتساب المعرفة. فقد لمحت أميركا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية نشوء طبقة وسطى من أعراق متنوعة. تلك الطبقة المتنوعة الأعراق لم تصل الى ما وصلت بفعل القرابات العائلية وروابط الدم، بل عن طريق الولوج غير المسبوق الى المدارس الجيِّدة، والوظائف المجزية مادياً.

فالتعليم الجيِّد من شأنه أن يرفع إنتاجية العاملين ومعها رواتبهم، ولا سيما الفقراء منهم وأولادهم. ويجدر بنظام التعليم السعودي أن يشدِّد على العلوم التطبيقية والتحليلية ويتوسع بها. والقيم المؤلفة لجوهر تلك العلوم تستند الى الوقائع والحقائق، والى المنطق والعقل، والى الأمانة والنزاهة. وفوق ذلك يجدر بنظام التعليم السعودي أن يركِّز على أهمية تعلُّم طلاَّبه لغات أجنبية، ودخولهم في كليات العلوم، والطب، والتكنولوجيا، والهندسة، والأعمال والقانون.

والنظام السعودي للتعليم العالي ملزم، والحالة هذه، بتخريج وإدامة مجموعات من العلماء والباحثين على أعلى المستويات من العلم والمعرفة، لأن خلق الثروة والنمو الاقتصادي يعتمد على التقدم التكنولوجي والعلمي، وعلى التسابق الحمس الى المبادرات المبتكرة. ولهذا فإن الحاجة ماسة في المملكة السعودية الى بنية علميَّة تحتيَّة، لأنه من غير الممكن اجتذاب استثمارات تكنولوجية بدون شعب عالي التعليم متمرِّس بالتكنولوجيا الحديثة.

إن شيوع المناخ المؤاتي لنمو الرساميل المجازفة في استثمارات مبتكرة يتأتى من «ثقافة السعي الاستثنائي»، حيث يتوقع الناس أنهم قادرون على «فعل أشياء استثنائية»، وهذا ما يجب زرعه في عقول الأطفال والشبان والشابات اليافعين من الأجيال السعودية الجديدة. 

كذلك تبدأ «ثقافة شيوع رأس المال المجازف» بإشاعة مناخ عام في البلاد مؤاتٍ للأعمال الاقتصادية. منها على سبيل المثال: أمان الملكية الخاصة، وفاعلية النظام العدلي وقدرته بنوع خاص على تنفيذ العقود. وفي ذلك يقول فردريك باستيا: «ليس بوسع أي مجتمع أن يقوم ما لم تكن هناك درجة معيَّنة من احترام القوانين. والطريق الأكثر أماناً لجعل القوانين محترمة هو جعلها محترمة». ولذلك ينبغي على المملكة السعودية أن تشيع مناخاً تجارياً وقانونياً يكون واضحاً وآمناً. ومن الشروط المسبقة لحصول النمو الاقتصادي وارتفاع المداخيل، سنُّ قوانين واضحة للحالات الإفلاسية، لأن قوانين الإفلاس تقضي بالتوزيع النظامي العادل لموارد التفليسة على الدائنين عن طريق إعادة تنظيم أو تصفية المؤسسة المعانية من متاعب مالية. كما إن قانون الإفلاس يتيح للمقترض الوقت الكافي لوضع خطة تتيح للمؤسسة المتعبة أن تحلَّ مسألة ديونها بأن توزِّع على الدائنين ما تبقى من موجوداتها وأصولها.

فالابتكار، كما كتبت المؤرخة نانسي ف. كوين، الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال «هي الكلمة الأكثر جاذبية في عالم الأعمال. إنها تستدعي رؤى جريئة من المنتجات والعمليات الجديدة، ومن بطولات المبادرة، والروح القيادية في السوق، وجني المكافآت المالية الكبيرة نتيجة لذلك. فلا عجب أن الدراسات في هذا المضمار قد اجتذبت كل أنواع المديرين التنفيذيين، والباحثين، والمسؤولين الحكوميين، وغيرهم من المراقبين الفضوليين والمنبهرين».

إن المناخ المؤاتي لتنشيط رأس المال المجازف، كما أشرنا سابقاً، يلزمه نظام سياسي واقتصادي منفتح، لأن الانفتاح أمرٌ جوهريٌّ لإشاعة التقدُّم. ذلك أن سوق الأفكار يجب أن يكون منفتحاً الى أقصى الحدود الممكنة لكي يولِّد الإبداع والبراعة في التعاون. 

يقول مات ريدلي في كتابه «الإنسان العقلاني المتفائل» إن البشر حققوا الازدهار بسبب أفكارهم في الاجتماع والتلاقي. وهو يقول إن شبكة الإنترنت وصلت بيننا لتتيح لنا «أن ننهل من إبداعية شبكة تضم أكثر من ستة مليارات إنسان». ويؤكد ريدلي أخيراً، «إن التكنولوجيا هي أكثر من عدَّاد أو مقياس للتعاون البشري. إنها مناخ من الذكاء الإنساني الجمعي. فمعظم التكنولوجيات التي نستخدمها، كما لمح قبل غيره المفكر الاقتصادي النمساوي فريدريك هايك، هي أشياء لم يكن أحد يعرف أن يصنعها من لا شيء حتى تخطَّى البشر حدود عقولهم الخاصة ليجمعوا عقولهم في شبكة واحدة»(1).

ويقول دايفيد فريدمان: «إن الأسواق بحاجة لتكون انفتاحيتها مضاعفة تجاه أخطائها كخطوة إيجابية لترسيخ الموثوقية».

واعتبر روبيرت بويل، أحد الآباء المؤسسين للعلوم الحديثة، أن الاعتراف بالخطأ هو جزء من مسيرة التقدم البطيء نحو أي حقيقة علمية. فلا تستطيع أن تقوم بأي تجربة من غير أن تخطىء. 

وفي كتابه «من أين تأتي الأفكار الجديدة، التاريخ الطبيعي للابتكار»، يقول ستيفن جونسون: «إن بعض المناخات يُخمد ويخنق الأفكار الجديدة. وبعض المناخات يولِّدها كما يبدو من غير أي عناء». وفي رأي جونسون أن روح الابتكار تنتعش «عندما تتصل الأفكار بالمصادفات الكاشفة لتتحد مع أفكار أخرى، لتتَّصل إلزامياً وتعيد خلط أثمن تلك الموارد ألا وهي المعلومات».

إن العناصر الأساسية للابتكار هي:

1 ـ إنك بحاجة الى بذور الابتكار وهي الناس الموهوبون وأفكارهم. فالبشر، بما أوتوا من موهبة وقدرة، وإبداع ونفاذ بصيرة، هم المورد الذي لا يقدَّر بثمن.

2 ـ يتطلَّب الإبداع مناخات ثقافية تفهم وتقدِّر البحث العلمي، ونظاماً اقتصادياً يكافىء الناس على المجازفات والمخاطر التي ارتضوها، ويقدِّر قيمة ما أنتجوه.

3 ـ إن المستثمرين الذين يجازفون بوضع أموالهم في الابتكارات يجب أن تتاح لهم فرصة عادلة للحصول على عائد عملهم الناجح. وهذا يقتضي وجود حماية صارمة وأكيدة للملكية الفكرية، ووجود نظام عادل وصارم وشفاف للإشراف والمراقبة من قبل الحكومة، ووجود نظام ضريبي يتيح للشركات القدرة والحافز للاستثمار في الابتكار.

4 ـ هناك حاجة الى قوانين للهجرة تشجِّع كبار العلماء، والمهندسين، والمصرفيين، والأطباء، ورجال الأعمال على اختيار العمل في المملكة السعودية، وتتيح لهم الحصول على إقامة دائمة ومنحهم الجنسية إذا هم اختاروا ذلك. إن من أسباب الاستثنائية الأميركية المتفوقة الانفتاح على المهاجرين الطامحين الحاملين معهم مواهبهم ومعارفهم المفيدة. وينبغي على السعوديين تكوين جماعات علمية، لأنه لا جدوى من أن يأتي أرفع الأساتذة الى البلاد لأسبوعين أو أربعة أسابيع فلا يعيشون فيها ولا يتعاطون التدريس لفترة طويلة. فلكي تجتذب أهل المواهب وأصحاب المعارف تحتاج الى مناخات اجتماعية ومعيشية مؤنسة ولطيفة وغير شديدة القيود، كما في دبي على سبيل المثال. (2) 

5 ـ في كتابه «دفتر الشيكات»، يقول الكاتب دايفيد بولشوفر: «إنك بحاجة الى أشخاص، من النساء والرجال، يطمحون الى تحقيق الثروة من خلال إبداعهم وضمائرهم الحيَّة، لا عن طريق التكليفات، أو الجشع، أو الامتيازات الخاصة»

6 ـ يجب أن تتاح للنساء في المملكة السعودية الفرصة وحرية الحركة للمنافسة مع الرجال في مجالات العلوم، والهندسة، والعلوم البيولوجية والصيدلانية، والطب، والأعمال، والقانون.

7 ـ إن الخضوع للمحاسبة هو مفهوم وطني في الغرب، وهو أمر لازم وواجب من أجل النجاح الاقتصادي. ولذلك يجب تضمين مفاهيم الخضوع للمحاسبة في أخلاقيات العمل السعودية.

وفي الختام لا بدَّ من القول بأن الولايات المتحدة استخدمت نفطها من أجل الابتكار وتصنيع أميركا. فلا تستطيع أن تنمو وتصنع منتجات جديدة من غير إبداع ومواهب بشرية. ولذلك فإن أي خطة أو رؤية غير قابلة للتنفيذ تبقى مجرد خيال أو وهم.

وقد قيل إن العبقرية تتطلب التنفيذ.

(1) من مقالة لمات ريدلي في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، بتاريخ 2 ـ 3 أكتوبر 2010 

(2) العناصر الأربعة الأولى للابتكار مقتطفة من مقالة بقلم جون ليكلايتر رئيس مجلس إدارة شركة "إيلي ليلي" في صحيفة «وول ستريت جورنال».

هذا المقال تنشره "إيلاف" بالاتفاق مع تقرير "الديبلوماسي" الذي يصدره من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله (عدد يونيو).