عبد الاله مجيد من لندن: لم يشهد رئيس وزراء بريطاني في الأزمنة الحديثة هبوط شعبيته الى الحضيض كما هبطت شعبية توني بلير٫ فبعد توديع بلير بالهتافات بحياته حين غادر مجلس العموم لآخر مرة في عام 2007 مختتماً 10 سنوات من الحكم بلا متاعب٫ جاءت فاجعة العراق لتوقعه في شباكها حتى انه اعترف هذا الصيف بأنه سيكون عبئاً على حملة إبقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي قبل الاستفتاء٫ إذ تحول سحر بلير القديم الى تراب. 

ويستعرض تقرير لجنة تشيلكوت دور بريطانيا في حرب العراق وعواقب هذه العلاقة المشؤومة التي تتجسد بأسطع صورها في رسالة بلير الى بوش يؤكد فيها انه معه "مهما حدث” وصولا الى غزو العراق وعجزه عن السيطرة على الفوضى التي اعقبت ذلك أو حتى عن التعاطي معها.

ولقد بدأ بلير عهده واثقا بنفسه ، لا سيما بعد نجاحه في اقناع الرئيس بيل كلنتون بالتدخل عسكرياً في البلقان رغم معارضة الكونغرس ، للتخلص من الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش.

علاقة وثيقة بين بلير وبوش

وأدى ذلك الاتفاق مع كلنتون الى علاقة وثيقة بين بلير وبوش. وحين دُمر برجا مركز التجارة العالمي بعد تسعة اشهر على دخول بوش البيت الأبيض كان بلير أقوى حليف وقف بجانب الاميركيين في تلك الايام التاريخية٫ ولم يكن بلير معروفاً على نطاق واسع في واشنطن ولكن حين زارها لاجراء محادثات خاصة مع بوش عقب هجمات 11 سبتمبر بدأ يُعامل في العاصمة الاميركية معاملة الأبطال٫ ولاحظ اعضاء في الوفد المرافق له حدوث تغير حاسم في سلوكه حين خرج من مباحثاته مع بوش في الغرفة الزرقاء في البيت الأبيض٫ حيث كان يتحدث عن الشؤون الدولية من خلال النظر الى العالم بمفردات الأسود والأبيض، الخير والشر على النقيض من موقفه في السياسة الداخلية. 

ورأى بعض المسؤولين الاميركيين ان بلير نزل عليهم هبة من السماء. وكان نائب الرئيس دك تشيني على رأس اولئك الذين وضعوا العراق في مرمى اهدافهم والأشد غلوا بين من يسمون أنفسهم المحافظين الجدد فوجدوا رئيس حكومة عمالية في بريطانيا يقف معهم بلا تحفظ٫ كان هؤلاء يرون ان حرب الخليج عام 1991 عملية لم تنته ولم يصدقوا حظهم بوجود رئيس وزراء عمالي مستعد للانضمام الى تحالف من أجل الحرب وتوفير غطاء قوي لادارة بوش التي كانت تبحث عن التأييد الدولي بالمجهر. 

الدعم الأعمى

اما الآن فإننا نعرف من تقرير تشيلكوت عواقب هذا الدعم الأعمى الى حد استخدام معلومات استخباراتية مهلهلة لتعزيز يقين بلير بصواب قراره خوض الحرب بدلا من زرع الشك في صحتها٫ وكانت هيمنة بلير السياسية الطاغية تعني ان بعض المسؤولين في حكومته تحولوا الى سعاة لا أحد منهم يجرؤ على وضع الافتراضات التي استند اليها قرار الحرب موضع تساؤل.

لا يعني هذا ان بلير كان مصمماً على الحرب مهما كان الثمن بل استمر يدعو حتى ربيع 2003 الى قرار ثان من مجلس الأمن الدولي يدعو فيه للحرب إذا اقتضت الضرورة ، بحسب ما افاد جيمس نوغتي٫ وهو محرر في صحيفة بي بي سي مشيرا الى ان الاميركيين كانوا يتحركون بسرعة وفي النهاية كان التزام بلير بالوقوف مع بوش أقوى من أن يتراجع عنه.

ولأن بلير كان على ثقة مطلقة بوجود اسلحة دمار شامل لدى صدام فانه أقنع نفسه بأن التواني سيكون دليل ضعف. ولم يتمكن أحد من اقناعه بالعدول عن رأيه٫ ورغم انه دافع عن تقديراته واحكامه بعد صدور تقرير تشيلكوت فانه يعرف حق المعرفة الثمن الباهظ على العراق من ناحية وعليه هو من ناحية أخرى.

من الحذاقة الى السذاجة

ان رئيس الوزراء الذي تحلى بالصبر والحذاقة في حل قضية ايرلندا الشمالية والدهاء في اوروبا وكان ينظر بشك الى التعامل الايديولوجي مع الشؤون الداخلية أصبح مؤمنا حقيقياً. وكان هناك عنصر سذاجة في تعاطيه مع المتشددين المحيطين بالرئيس بوش معترفاً على سبيل المثال بأنه لم يعرف من هو المحافظ الجديد.

وكتب نوغتي:” ان هيلاري كلنتون اعربت في مجلس خاص عن دهشتها لغياب الشك عند بلير وتساءلت "ماذا حدث لتوني؟" وكانت تريد بذلك القول ان بلير تخلى عن الحذر وعن كل ذرة من الشك. ورغم انه سيكون من الخطأ القول ان بلير لم يدرك كلفة الحرب ولم يمعن التفكير في عواقبها فان ولاءه للرئيس بوش اصبح قوياً بعد هجمات 11 سبتمبر بحيث طغى على كل شيء آخر٫ وكانت النتيجة غزو العراق عام 2003. فالجدول الزمني الأميركي كان مُعَداً وبلير لم يتمكن من تغييره أو هكذا كان يعتقد.

تأثير بلير على اميركا

يبقى سؤال واحد بلا اجابة هو هل كان بمقدور بلير ان يمارس ضغطاً حاسماً للجم اندفاع بوش نحو الحرب لو هدد بحجب دعمه؟ كان دك تشيني ودونالد رامفسيلد سيهزءان من مثل هذا التهديد ولكن ماذا عن الشعب الاميركي؟ فان ناقوس انذار من حليف اميركا الأول ، وشخصية ذات شعبية واسعة في الولايات المتحدة ، ربما كان سيمارس تأثيراً حتى أقوى مما يعتقد. 

ما نعرفه انه كان مصمماً على المضي مع بوش حتى النهاية ، وكلفه ذلك الموقف تكلفة باهضة٫ واصبحت حرب العراق هي السائدة في تركة بلير حتى انها طغت على جميع منجزاته الأخرى في الداخل٫ وسيتمكن المؤرخون في المستقبل من إعادة شيء من التوازن الى السجل ولكن ليس الآن.

ان مأساة بلير الشخصية التقدمية التي اراد ان يكونها ـ اول رئيس وزراء بريطاني مولود بعد الحرب أعطى حزب العمال جاذبية جديدة بين جيل من يُسمون "الألفيين" ـ طمسها أكبر القرارات التي اتخذها في عهده حين اختار السير مع بوش الى الحرب. 

 

أعدت ايلاف المادة عن صحيفة بي بي سي

المادة الأصل هنا