"ما وجه الشبه السياسي بين طفل في السماوة ووزير الدفاع العراقي خالد العبيدي؟". قد يبدو التساؤل، الذي طرحه أحد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، غريبا. لكن لقصته مغزى. فقد أصدرت محكمة السماوة، في محافظة المثنى، حكما بالسجن لعام واحد على طفل عمره ثماني سنوات بتهمة سرقة أربع علب مناديل ورقية. وبعدها بيوم كان مجلس النواب العراقي يصوت بإقالة وزير الدفاع في سابقة هي الأولى من نوعها. لم يتوقف العراقيون كثيرا عند التصحيح الذي أصدرته المحكمة من أن عمر الطفل المتهم 12 عاما وليس 8 سنوات، وأنه سرق "بالة" أو كومة مناديل وليس أربع علب. كما لم يسأل غالبيتهم عما إذا كان الوزير قد أساء للبرلمان والديمقراطية العراقية. لكن خبر الطفل السارق وتصويت البرلمان على حجب الثقة عن العبيدي يعدان بمثابة الحلقة الأحدث في حوار لا ينقطع عن الفساد والديمقراطية في العراق. لا يمر يوم واحد في العراق دون أن تحمل الأخبار مزاعم فساد تطال مسؤولين حكوميين وغير حكوميين. لا تقتصر هذه المزاعم على التلاعب بالعقود والتوريدات الحكومية، لكنها تمتد أيضا لتشمل ما يتعلق بالصحة العامة وأمن المواطن، كما حدث الشهر الماضي عندما تبين فساد أجهزة لكشف المتفجرات بمنطقة الكرادة غداة انفجار خلّف حوالي 300 قتيل. ويقر كبار المسؤولين العراقيين بدءا من رئاسة الدولة وحتى وزراء الحكومة ونواب البرلمان بوجود الفساد، مؤكدين في الوقت ذاته بذل قصارى الجهود لمكافحته. قبل يومين كان رئيس الحكومة حيدر العبادي يتحدث للصحفيين عن الحرب على الفساد التي "لن تتوقف وستشمل البحث عن العقارات التي اشتراها الفاسدون". وقبل شهرين التقيت الرئيس العراقي ورئيس البرلمان وسمعت منهما كلاما مشابها عن الحاجة لدعم دولي في مكافحة الفساد. لكنك حينما تقارن تلك التأكيدات بما تسمعه من المواطن العراقي ومن الإعلام عن فساد يكلف البلاد عشرات المليارات من الدولارات، ربما تشعر أن الفساد ومكافحته يسيران على خطين متوازيين في العراق، لن يتقاطعا أبدا. ربما كانت اتهامات وزير الدفاع خالد العبيدي لرئيس البرلمان وعدد من النواب، رجالا ونساء، من مختلف التكتلات السياسية تحت قبة البرلمان في الأول من أغسطس/ آب، أكبر تجليات مزاعم الفساد الرسمي في العراق. فبوصفه وزيرا للدفاع تتمتع وزارته بأكبر بنود الإنفاق في الميزانية في ظل الحرب الراهنة على التنظيم المعروف باسم "الدولة الإسلامية". ساق العبيدي اتهامات بالفساد في عقود تسليح وسيارات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، قائلا إن النواب والمسؤولين الذين ساوموه، الذين ذكرهم بالأسماء، "يريدون أن لا يأكل الجنود المقاتلون، لكي يسرقوا هم وشركاتهم". وأشار العبيدي إلى أن أحد النواب ساومه على شراء 1500 عربة عسكرية من طراز "هامر"، يحصل منها على عمولة 200 ألف دولار عن كل عربة. وبعد تلك الجلسة العاصفة أحال رئيس البرلمان، سليم الجبوري، اتهامات العبيدي له ولنواب آخرين إلى القضاء ولجنة النزاهة. وقد تم تبرئتهم منها في مداولات سريعة، أعرب رئيس الوزراء نفسه عن اندهاشه منها. ثم عاد الأمر مجددا إلى البرلمان الذي صوت بغالبية أعضائه بعدم قناعته بمبررات العبيدي، فأصبح لزاما على المجلس التصويت على حجب الثقة عنه وهو ما حدث أمس الخميس. وفي الأصل، كان الوزير قد توجه إلى جلسة استجواب، عُقدت بطلب من النائبة عالية نصيف، بشأن مزاعم فساد في وزارته مرتبطة بالتأخر في مشروع مستشفى للقوات المسلحة. لكن الموقف تطور سريعا ليكشف عما قال إنه مساومات تُعرض عليه بتعيينات وعقود تسليح وعقود إطعام في المؤسسة العسكرية. قد تكون إقالة وزير عملا ديمقراطيا رائعا تمارسه البرلمانات عند الضرورة. لكن الأمر ليس بالضرورة كذلك في العراق. فقاعدة التوافق هي التي تحدد مصير أي قرار سياسي في مجلس النواب. على سبيل المثال، لا تعقد جلسات البرلمان إلا بحضور أغلبية مطلقة من نوابه - وعددهم الإجمالي 328 عضوا - وتتخذ القرارات بأغلبية بسيطة من الحاضرين. قاعدة التوافق تجعل تأمين دعم لأي قرار، مثل حجب الثقة عن العبيدي أو إقرار قانون العفو العام اللذين صوت عليهما البرلمان في يوم واحد، سباقا سياسيا ومناسبة للمقايضات. لكن المؤكد أن وزير الدفاع عندما اتهم بعض النواب ولم يحمل معه أدلة كافيه، أثار غضب المؤسسة التشريعية، التي لا تحظى برضى كبير عن أدائها في الشارع العراقي. العبيدي أصر على وصف جلسة استجوابه بـ"المسرحية" المعدة سلفا. وفي الشارع ستجد كثيرين يدافعون عنه. معظم من تحدثت معهم من عراقيين سنة وشيعة، لم يخفوا إعجابهم بالعبيدي. وقد اعتبروه شجاعا في مواجهة "تكتل النواب عليه"، كما دعا بعضهم للتظاهر في بغداد تأييدا له. كتلة "متحدون" التي ينتمي إليها الوزير، ويتزعمها رئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي، هي جزء من تكتل برلماني موسع هو تحالف القوى الذي يضم عددا من الكتل السنية بينها قائمة رئيس البرلمان، الذي اتهمه العبيدي بالفساد. واعتبرت الكتلة ما حدث مع العبيدي "استهدافا سياسيا" واضحا، وأن ما حدث ليس أكثر من إدانة سياسية للوزير في مسائل ينظرها القضاء حاليا. نظريا، انتصرت الممارسة الديمقراطية في العراق واضطلع البرلمان بدوره في محاسبة السلطة التنفيذية وإقالة وزير للمرة الأولى. لكن كثيرين هنا يربطون بين التصويت بحجب الثقة والجهة التي وجهت الاتهام، ويتساءلون: هل كان البرلمان سيتحرك بهذه القوة والإصرار لو وجهت الاتهامات لغير نوابه؟".
- آخر تحديث :
التعليقات