لم يكن الانقلاب العسكري الذي وقع قبل أيام وأدى لاعتقال أونغ سان سو تشي هو الأول في تاريخ ميانمار والتي تعرف أيضا باسم بورما، لكنه في الواقع وبالنسبة لكثيرين من المتابعين يذكرنا بانقلاب الثمانينيات.

وقال أحد الشباب البورميين لبي بي سي "لقد شاهدنا ذلك سابقاً، يبدو الأمر كما لو كنا قد عدنا إلى المربع الأول".

النشأة في ظل الخوف

واي واي كانت في الخامسة من العمر عندما تعرض والدها للاختطاف أمام عينيها فقد كان ناشطا حقوقيا متضامنا مع أونغ سان سو تشي لذلك تعرض للاختطاف.

ورغم أن والدها عاد لمنزله بعد شهر إلا أن واي واي لا تزال تتذكر شعورها يوم اختطافه، وتقول "لقد كبرت مع الشعور المستمر بالخوف وكنت أعيش حالة رعب مستمرة وقتها، فقد كان الجنود خارج منزلنا دائماً وما زالت صورة اختطاف والدي عالقة في ذهني".

وتوضح واي واي، وهي من أقلية الروهينجا المسلمة (الأقلية الأكثر اضطهادا في البلاد)، أن والدها كان مطاردا بشكل مستمر من قبل السلطات لذلك قررت الأسرة وهي في سن العاشرة الانتقال إلى العاصمة رانغون.

وتوضح "لقد عاصرت نوعا من الحرية في رانغون، في إقليم راخين غالبية السكان من الروهينجا، أما في رانغون فالمجتمع متعدد الأعراق والثقافات واللغات لكن الكثيرين في العاصمة لا يعرفون ماذا يحدث للأقليات".

تعد الروهينجا من أكثر العرقيات اضطهادا في ميانمار
Getty Images
الروهينجا من أكثر العرقيات اضطهادا في ميانمار

وفي تلك السن كانت الحياة تبدو لواي واي طبيعية "كنت أذهب للمدرسة حيث كان من المعتاد أن يأتي لزيارتنا عدد من الجنرالات لكي نقدم لهم التحية والاحترام حيث كان نظام التعليمعبارة عن آلة دعاية للعسكر".

لكن عندما بلغت 18 عاما استهدف النظام والدها مرة أخرى وتم الزج بالأسرة بكاملها في السجن لمدة 7 سنوات وكان ذنبها أنها ابنة ناشط سياسي.

وبعد خروجها من السجن أصبحت واي واي طالبة في الجامعة قبل أن تتخرج وتعمل ناشطة حقوقية للدفاع عن حقوق الروهينجا.

وتقول "كان إقليم راخين حيث كبرت فقيرا جدا لكنه لم يكن مكانا سيئا فقد كان الناس يستطيعون تدبير شؤون حياتهم بشكل مستقر وليس كما يجري حاليا".

التنصت على الهاتف

فتاة أخرى اسمها الحركي فيو مرت بتجارب مختلفة في نشأتها. فقدت نشأت في عائلة أكثر اندماجاً في العاصمة رانغون وهو ما كان يمثل نوعا من الحماية لها لكن ليس في جميع الأحوال.

تقول فيو "عندما كنا نتكلم في الهاتف كنا نسمع أصواتا في الخلفية كصوت تلفاز أو ضوضاء أناس يتحدثون. فعرفنا أن الجيش يتنصت على المكالمة".

وتضيف "لم يكن الأمر مخيفا فقد ولدنا ونشأنا في هذا الوضع وبالتالي لم نكن نعرف غير ذلك لكن أباؤنا كانوا يطلبون منا عدم التحدث في الهاتف".

ولدت فيو عام 1995 بعد 3 أعوام فقط من استيلاء الديكتاتور ثين شوي على السلطة وتصف فيو العام الذي ولدت فيه بأنه كان أكثر أعوام الحكم العسكرية قمعاً بعد ثورة عام 1988.

وكان الأطفال يتعلمون في المدارس مناهج منتقاة لتبجيل العسكر والحكم العسكري.

وتقول فيو: "لم يكونوا يعلموننا أموراً تتسم بالحساسية، فمثلا بدلا من قراءة أمورا تنتقد الولايات المتحدة كنا نقرأ قصصا عن البوذية أو نقرأ قصصا عن عظمة ملوك بورما حتى جاء البريطانيون وقضوا على النظام الملكي".

وسيطر البريطانيون على البلاد منذ 1824 وحتى 1948.

وكانت فيو بعيدة عما يجري في البلاد من الناحية السياسية حتى بلغت الثانية عشرة من العمر.

وتقول فيو "أتذكر عيد ميلادي الثاني عشر وهو ما تزامن مع اندلاع ثورة الزعفران، وحينها بدأت أدرك كل شيء وهو أننا نعيش في ظل حكم ديكتاتوري قمعي".

غالبية السكان من البوذيين وينظر المجتمع إلى الرهبان البوذيين بكثير من التقدير لكن الكثيرين منهم تعرضوا للاعتقال خلال الثورة بل تعرض 3 منهم للقتل على أيدي الجيش.

تقول فيو "لم تكن الهواتف المحمولة منتشرة كثيراً في تلك الحقبة فلم تكن متاحة إلا لمن يستطيع تحمل تكاليفها".

وتضيف "لقد جعلوا الهواتف المحمولة شديدة الكلفة لكي لا يستطيع أحد امتلاكها ويتحدث الناس في الهواتف الأرضية وفي بعض الأحيان تنقطع الكهرباء فلا تستطيع حتى التحدث مع أي شخص".

وتشير فيو إلى إنه "عندما كنا نرى أحد الضباط في الجوار كان زملائي يشعرون بالخوف، لم أكن اشعر بذلك لأني كنت معتادة على رؤيتهم بالجوار".

وفي صبيحة الثاني من الشهر الجاري استيقظت فيو على العديد من الرسائل على هاتفها المحمول.

السيارات العسكرية في الشارع
Getty Images

تقول فيو "تستيقظ من النوم لتجد أن كل حكومة بلادك رهن الاعتقال".

وتضيف "عندما كنت صغيرة كنت أستيقظ على أخبار مثل دخول الناس العاديين إلى السجن أو تعرضهم للاختفاء وبدا الأمر هذا الصباح كما لو كنا نشاهد ما شاهدناه سابقاً، وكما لو أننا عدنا إلى المربع الأول".

الحياة في صمت

من جانبه يتذكر كيو ثان وين البالغ من العمر 67 عاماً أين كان عندما وقع الانقلاب العسكري عام 1988.

كان يعيش في مدينة وسط البلاد تشهد الكثير من أعمال العنف وإطلاق الرصاص لكن بشكل عام كانت الحياة عادية في تلك المدينة.

ويقول "عندما عدنا للعمل فقدنا بعض الموظفين بسبب دورهم في قيادة المظاهرات وعرفنا أنهم تعرضوا للتسريح من العمل والبعض الآخر تم تخفيض درجته الوظيفية أو نقله بينما تعرض آخرون للاعتقال".

ويواصل "بالنسبة للموظفين الباقين من أمثالي فقد عادوا للعمل بشكل طبيعي فقد كنا مجبرين على مواصلة الحياة بصمت خوفا من العواقب".

واستمرت الحياة بهذا الشكل في ميانمار حتى انتخابات عام 2015، أول انتخابات وطنية في البلاد خلال عقود وفاز فيها حزب الرابطة الوطنيةمن أجل الديمقرطية بزعامة أونغ سان سو تشي وأنهت نحو 50 عاما من الحكم العسكري.

أونغ سان سوكي
Getty Images

ويواصل القول "لقد كنت سعيدا جدا بقيادة شخصية مثلها للبلاد، لقد قامت بعمل رائع بالنسبة للبنية التحتية التي تحسنت وكذلك الحريات العامة والحياة المدنية لقد أصبحت الحياة أفضل".

واتضح لاحقا أن هذه الفترة كانت قصيرة حيث يوضح كيو أن قرار الجيش بشن الانقلاب الأخير هو ضد رغبة ملايين المواطنين.

وحسب الأستاذ الجامعي سايمون تاي، مدير معهد العلاقات الدولية في سنغافورة، فإن المؤسسة العسكرية في ميانمار لا تستطيع أن ترى أن هناك أي جهة أخرى غيرها قادرة على حماية وحدة البلاد.

ويقول "رغم الدورتين الانتخابيتين اللتين فازت فيهما الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية لكن الجيش لا يقبل بالعودة إلى معسكراته والانسحاب من الحياة السياسية".

ويضيف أن عدداً قليلاً من الكوادر العسكرية ترغب في عودة البلاد إلى عقود سابقة عاشت خلال في ظل حكم قمعي وأزمات اقتصادية وعقوبات دولية وفقر مدقع.

التغييرات والتحولات التي تعيشها ميانمار أبعد ما تكون من نهايتها، والجيش سيقوم بما يشعر أنه واجب عليه.