باريس: بعد ستّ سنوات من ليلة الرعب التي هزّت البلاد وأسفرت عن 130 قتيلاً ومئات الجرحى، بدأت القضاء الفرنسي المحاكمة في قضية الاعتداءات الجهادية في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 في باريس، في أجواء مرهقة، اتّسمت بتصريحات حاقدة من جانب المتهم الرئيسي صلاح عبد السلام، الذي استغل الوعكة الصحية التي أصابت متهماً آخر، للتهجّم على القضاء.

وقال المتهم الفرنسي المغربي الناجي الوحيد بين أفراد المجموعات الجهادية التي نفذت الاعتداءات، بصوتٍ مرتفع "إذا لم أشتكِ أبداً، لأن بعد الموت هناك قيامة". وأضاف "عبد السلام" الذي لزم الصمت منذ توقيفه، "منذ ستة أعوام أُعامل مثل الكلب ولم أشتكِ أبداً".

وعليه، فقد بدأ القضاء الفرنسي بهذه المحاكمة مساراً يمتد على تسعة أشهر لمحاكمة مرتكبي هذه الهجمات الجهادية التي نفذها "انتحاريون" في ملعب استاد فرنسا، بينما فتح مسلحون النار على شرفات مقاه وفي قاعة باتاكلان للعروض الموسيقية ما أسفر عن مقتل 130 شخصاً وإصابة 350 آخرين في باريس وسان دوني في ضواحي العاصمة الفرنسية.


(صلاح عبد السلام هو العضو الوحيد الباقي على قيد الحياة من فريق هجوم باريس 2015)

تفاصيل الجلسة الأولى

خلال الجلسة الأولى من هذه المحاكمة الاستثنائية والصعبة للغاية بالنسبة لعائلات الضحايا والناجين، أدلى صلاح عبد السلام المتهم الرئيسي والناجي الوحيد بين أفراد المجموعات الجهادية التي نفذت الاعتداءات، بتصريحاته المستفزة المذكورة أعلاه.

عند افتتاح الجلسة، كان عبد السلام ذو اللحية السوداء والشعر الداكن المصفف إلى الوراء، يرتدي قميصاً أسود اللون. وقال رداً على طلب الإفصاح عن هويته "قبل كل شيء، أريد أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

ثم سُئل عن مهنته فأجاب "تخليت عن أي مهنة لأصبح مقاتلاً في صفوف الدولة الإسلامية".

على هامش الجلسة، علّق دومينيك كيليمويس الذي قُتل ابنه في إطلاق النار على حانة "لا بيل إيكيب" ليلة 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، "إنه استفزاز، كنا نتوقعه وفي الواقع لا ننتظر أي شيء إطلاقاً".

متهمون

وكان عشرة متهمين آخرين جالسين في الصف الأول من مقاعد قفص الاتهام، تحت حراسة عدد كبير من عناصر الدرك. وجلس ثلاثة متهمين خارج القفص، إذ إنهم طليقون قيد المراقبة القضائية.

خلافاً لعبد السلام، اكتفى جميعهم بتأكيد هوياتهم والردّ على الأسئلة بدون مزيد من التعليقات.

دخل القضاة إلى القاعة التي أُعدت خصيصاً للمحاكمة في هذه القضية، وسط صمت مهيب.

في محيط وداخل القاعة الكبيرة البالغ طولها 47 متراً والتي تضمّ 550 مقعداً، كان توتر كبير ملموساً في اليوم الأول من المحاكمة المخصص لدعوة الأطراف المدنية. ستتواصل هذه الدعوة الخميس، قبل قراءة التقرير الجمعة. ويُنتظر أن يدلي أولى الشهود بشهاداتهم أمام المحكمة الاثنين.

وكان عدد الناجين وأقرباء الضحايا ضئيلاً في القاعة. ولم يكن هناك سوى حوالى مئة شخص جالسين في الخلف، وراء مجموعة كبيرة من وكلاء الدفاع عن الأطراف المدعية بالحق المدني.

مسارٌ طويل

على مدى تسعة أشهر، سيجري القضاء أكبر محاكمة في قضية إجرامية تنظم في فرنسا. فهي غير مسبوقة من حيث الحجم - 542 فصلاً ومن حيث عدد الأطراف المدعية بالحق المدني - 1800 على الأقل - ومن حيث المشاعر التي تثيرها.

وسيبدأ الناجون وأقرباء الضحايا في 28 أيلول/سبتمبر، الإدلاء بإفاداتهم على مدى خمسة أسابيع.

وقال فييلب دوبيرون الذي قتل ابنه (30 عاماً) في قاعة باتاكلان للعروض الموسيقية وتحدث بصفته رئيس جمعية الضحايا، "نعرف" أن في هذه المناسبة "تتدفق موجة من المشاعر، تعود الأحداث إلى الواجهة".

كانت الساعة 21,16 الجمعة 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 حين غرقت فرنسا في الرعب مع قيام ثلاثة انتحاريين بتفجير أنفسهم قرب ملعب استاد فرنسا خلال مباراة ودية بين منتخبي فرنسا وألمانيا.

وعلى بعد كيلومترين في قلب باريس قامت مجموعة مسلحة من ثلاثة عناصر بإطلاق النار بالأسلحة الحربية الرشاشة على شرفات مقاه، فيما فتحت مجموعة ثالثة من ثلاثة عناصر أيضا النار على الجمهور داخل مسرح باتاكلان خلال حفل موسيقي، حيث أوقفت الشرطة الاعتداء بعيد منتصف الليل.

بيان تمهيدي

خلافاً للعادة، تمنى رئيس محكمة الجنايات الخاصة المؤلفة فقط من قضاة محترفين، الإدلاء ببيان تمهيدي.

وقال جان لويس بيرييس في القاعة، "نبدأ هذا اليوم بمحاكمة تُعتبر تاريخية، استثنائية". لكنه حذّر من أن "ما يهمّ هو أيضاً احترام المعايير، احترام حقّ كل شخص، بدءاً من حقوق الدفاع".

وأضاف "غاية محكمة الجنايات هي النظر في الاتهامات الموجهة لكل شخص واستخلاص منها كل العواقب على المستوى الجنائي بعد الاستماع إلى كل شخص". وتابع "علينا أن نتذكر هذه الغاية بهدف الحفاظ على هذا الاتجاه".

محامو صلاح

وقال محامو صلاح عبد السلام أمام الحضور، إن "هذه المحاكمة ستكون مشحونة بالعواطف التي سيتعين على القضاء أن يبقيها بعيدة إذا كان يريد عدم إغفال المبادئ التي تقوم عليها دولة القانون".

صباحاً، غادر موكب، أمام عدسات الكاميرات وتحت حراسة أمنية مشددة، سجن فلوري-ميروجيس، حيث كان يقبع صلاح عبد السلام منذ أكثر من خمس سنوات انفرادياً.

وتحاكم محكمة الجنايات الخاصة في المجمل عشرين متهماً، يُشتبه في ضلوعهم بدرجات متفاوتة في التحضير للاعتداءات.

سيُحاكم ستة متهمين غيابياً بينهم أسامة العطار، أحد "أمراء" تنظيم الدولة الإسلامية والعقل المدبّر للاعتداءات، والجهاديان الفرنسيان الأخوان فابيان وجان ميشال كلين، اللذان يعتقد أنهما قتلا في سوريا.

على ضفة نهر السين، كان محيط قصر العدل مغلقاً منذ ساعات الفجر. وحشد قرابة ألف عنصر من قوات الأمن لضمان أمن المحاكمة، ونُشر 630 عنصراً من بينهم في محيط القصر وداخله، بحسب وزارة الداخلية.