بيروت: أفاد مصدر قضائي لبناني أنّ المحقّق العدلي طارق بيطار الذي يتعرّض لضغوط سياسية متزايدة، علّق مجدّداً تحقيقه في انفجار مرفأ بيروت بعد تبلّغه دعوى تقدّم بها وزيران سابقان يطلبان نقل القضية إلى قاضٍ آخر، في ثالث توقّف لهذا التحقيق منذ بدئه في أعقاب الكارثة.

ويثير تعليق التحقيق، الذي جاء غداة انتقادات حادة من حزب الله الذي اتهم أمينه العام حسن نصرالله بيطار بـ"الاستنسابية" في استدعاء مسؤولين أمنيين وسياسيين، خشية كثيرين من أن تؤدّي الضغوط السياسية إلى عزل بيطار، على غرار ما جرى مع سلفه فادي صوان الذي نُحّي في شباط/فبراير بعد ادعائه على رئيس الحكومة السابق حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين.

وقال مصدر قضائي وكالة فرانس برس إنّ بيطار تبلّغ من محكمة التمييز المدنية دعوى جديدة مقدمة من وزير المالية السابق علي حسن خليل ووزير الأشغال السابق غازي زعيتر، "ما استدعى تعليق التحقيق ووقف كل الجلسات" لحين بتّ المحكمة بالدعوى لناحية قبولها أو رفضها.

وعُلّق التحقيق بعيد إصدار بيطار مذكرة توقيف غيابية بحق خليل لتخلّفه عن حضور جلسة استجواب كانت محدّدة الثلاثاء.

وهذه المرة الثالثة التي يُعلّق فيها التحقيق، إذ علّقه صوان مرة قبل تنحيته، كما سبق لبيطار أن علّقه الشهر الماضي إثر شكاوى قضائية من خليل وزعيتر، المنتميين لحركة أمل، ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق الذي كان محسوباً على تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري.

ومنذ ادعائه على رئيس الحكومة السابق وطلبه ملاحقة نواب ووزراء سابقين وأمنيين، يتعرّض بيطار لانتقادات سياسية، تثير غضب منظمات حقوقية وعائلات ضحايا الإنفجار الذي تسبّب في الرابع من آب/أغسطس 2020 بمقتل 214 شخصاً على الأقل وإصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح، عدا عن دمار واسع في العاصمة.

يوميات إعاقة العدالة

وعزت السلطات الإنفجار إلى تخزين كميات كبيرة من نيترات الأمونيوم من دون إجراءات وقاية. وتبيّن لاحقاً أنّ مسؤولين على مستويات عدة سياسية وأمنية وقضائية كانوا على دراية بمخاطر تخزين هذه المادة ولم يحركوا ساكناً.

وقالت الباحثة في الشأن اللبناني لدى منظمة العفو الدولية سحر مندور لفرانس برس إنّ "ما نشهده اليوم هو من يوميات إعاقة العدالة، تظهر في كل يوم حجة جديدة لتجميد التحقيق أو تفاديه، مترافقة مع حملات إعلامية وسياسية هائلة ضد شخص القاضي".

وأضافت "إنه مسلسل الهدف منه القول إنّ هذا الجسم الحاكم من أحزاب وشخصيات حاكمة لا يقبل بالمساءلة، فكيف بالمحاسبة؟".

تخلّف عن الحضور

ورفضت محكمتا استئناف بيروت والتمييز المدنية خلال الشهر الحالي طلبات المدعى عليهم بكفّ يد بيطار عن التحقيق. وإثر ذلك، حدّد مواعيد لاستجواب خليل وزعيتر والمشنوق، وهم نواب حاليون، يومي الثلاثاء والأربعاء، مستغلّاً عدم تمتّعهم بالحصانة النيابية قبل انعقاد الدورة العادية الثانية للبرلمان في 19 من الشهر الحالي.

ولم يمثل خليل الثلاثاء أمام بيطار في جلسة الاستجواب. وأفاد المصدر القضائي أنّ محاميه حضر نيابة عنه وطلب منحه مهل إضافية لتقديم مستندات وتقديم دفوع شكلية، لكن القاضي اعتبر أنّ خليل تخلّف عن الحضور وأصدر مذكرة توقيف غيابية في حقه.

وهذه المرة الثانية التي يصدر فيها المحقّق العدلي مذكرة توقيف بحق مسؤول سياسي، بعدما أصدر في 16 أيلول/سبتمر مذكرة توقيف بحق وزير الأشغال العامة والنقل السابق يوسف فنيانوس بعد امتناعه عن المثول أمامه لاستجوابه.

وبُعَيد إصدار مذكرة التوقيف الغيابية بحق خليل، تقدّم الأخير مع زعيتر بطلب رد القاضي بيطار مجدداً، ما استدعى تعليق الأخير للتحقيق فور تبلّغه بالشكوى.

ومساء الثلاثاء قال خليل في تصريح لقناة الميادين "سيكون هناك تصعيد سياسي وربما من نوع آخر في حال عدم تصويب مسار هذه القضية"، مؤكّداً أنّ "كلّ الاحتمالات مفتوحة بما فيها التحرّك في الشارع".

وسيعقد مجلس الوزراء جلسة الأربعاء لمتابعة البحث في الملابسات المحيطة بالتحقيق.

ضرورة استكمال التحقيق

من جهته، شدّد الإتحاد الأوروبي في بيان على ضرورة استكمال التحقيق "في أسرع وقت ممكن، وأن يكون غير منحاز وأن يتم بمصداقية وشفافية واستقلالية"، وعلى أهمية "السماح بالمضي في الإجراءات القانونية من دون أي تدخل"، و"محاسبة المسؤولين عن هذه المأساة".

وتتّهم قوى سياسية رئيسية على رأسها حزب الله، القوة العسكرية والسياسية الأبرز المدعومة من طهران، وتجمّع رؤساء الحكومات السابقين بينهم الحريري، بيطار بـ"تسييس" التحقيق.

وصعّد حزب الله نبرته تجاه بيطار موجّهًا له انتقادات عالية النبرة. واتّهمه نصرالله الإثنين بالعمل "في خدمة أهداف سياسية"، وطالب بقاضٍ "صادق وشفاف" لاستكمال التحقيق.

وقال "نعتبر ما يحدث خطأ كبيراً جداً جداً (...) الموضوع لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل، ولا إمكانية لاستمراره خصوصاً في الأيام القليلة المقبلة".

وجاءت انتقادات نصرالله بعد تسريب إعلاميين محليين الشهر الماضي رسالة وجّهها مسؤول رفيع المستوى في الحزب، إلى بيطار تضمّنت امتعاضاً من مسار التحقيق وهدّدت بإزاحته من منصبه.

نفاذ صبر السياسيين

وقال المحامي نزار صاغية، المدير التنفيذي للمفكرة القانونية، وهي منظّمة غير حكومية تُعنى بالأبحاث القانونية وحملات المناصرة الحقوقية، لفرانس برس "ثمة قرار سياسي بعدم السماح له (بيطار) بالعمل، والأمر ليس مجرّد مماطلة"، معتبراً أنّ "القوى المعترضة عليه تستنفذ كل ما لديها من وسائل قانونية لكن من الواضح أنّ ثمة أطراف مستعدة لاستخدام وسائل غير قانونية لمنعه من العمل".

واعتبر أنّ كلام نصرالله "دليل على نفاذ الصبر" لدى السياسيين، مشيراً إلى "حملة ممنهجة لتشويه صورة القاضي وتظهيره على أنّه قاضٍ مسيّس"، مرجحاً أن يكون ذلك لسببين إما "تبرير إزاحة القاضي ولو بطريقة غير قانونية أو التشكيك بمشروعية أي قرار يصدر عنه ووضعه ضمن إطار الخصومة السياسية المفتوحة وليس العمل القضائي".

تظاهرات دعمًا لبيطار

ويتظاهر ذوو الضحايا باستمرار دعماً لبيطار واستنكاراً لرفض المدعى عليهم المثول أمامه للتحقيق معهم، بينما تندّد منظمات حقوقية بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية بمحاولة القادة السياسيين عرقلة التحقيقات، وتطالب بإنشاء بعثة تحقيق دولية مستقلة ومحايدة.

ومنذ وقوع الإنفجار، رفضت السلطات اللبنانية تحقيقاً دولياً، إلّا أنّ محقّقين فرنسيين ومن مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي شاركوا في التحقيقات الأولية.