بغداد: رغم إعلان رجل الدين العراقي الشيعي مقتدى الصدر "اعتزاله النهائي" للعمل السياسي هذا الأسبوع، يرى محللون أن العنف الذي اندلع بعد إعلانه يشير إلى أن له نوايا أخرى يكتنفها الغموض.

وقال الباحث في مؤسسة "تشاتام هاوس" البريطانية ريناد منصور لوكالة فرانس برس إن "الصدر يتطلع لأن يصبح أقوى فاعل سياسي شيعي في العراق".

وأضاف "ذلك هو طموحه ويتطلب تحقيقه جزئيا عدم الاكتفاء بزعزعة النظام السياسي في ذاته، بل كذلك البيت الشيعي وإعادة ترتيبه ليكون هو في محوره".

منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 وأدى الى إطاحة الرئيس الراحل صدام حسين، يُدار العراق بموجب نظام تقاسم سلطة طائفي.

تدريجا صار مقتدى الذي كان والده محمد صادق الصدر من أكثر رجال الدين الشيعة احتراما في العراق، لاعبا سياسيا رئيسيا مدعوما بقاعدة شعبيّة شيعية يحشدها في كثير من الأحيان للضغط من أجل تحقيق مطالبه.

منذ الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تسود خلافات بين الصدر و"الإطار التنسيقي" الذي يضم قوى شيعية منافسة مدعومة من إيران، ما عطّل تأليف حكومة جديدة واختيار رئيس ورئيس وزراء جديدين.

وتصاعدت التوترات بشكل حاد الاثنين عندما اقتحم موالون للصدر القصر الحكومي داخل المنطقة الخضراء المحصنة بعد إعلان زعيمهم "اعتزال" السياسة.

لكن أنصار الصدر غادروا المنطقة الخضراء بعد ظهر الثلاثاء بعد أن طلب منهم بنفسه الانسحاب في غضون ساعة، ما يعكس تأثيره الكبير على أتباعه والذي أكسبه سمعته كصانع حكّام.

وقتل ما لا يقل عن 30 من أنصار الصدر بالرصاص وأصيب نحو 600 بجروح خلال قرابة أربع وعشرين ساعة من الاشتباك مع فصائل شيعية أخرى.

ولفت ريناد منصور إلى أن "هذه ليست المرة الأولى التي يرسل فيها متظاهرين ثم يطلب منهم الانسحاب"، مقدّرا أن "هدفه وغايته النهائية هي أن يصبح القوة السياسية الشيعية الرئيسية في العراق".

حصل التيار الصدري على 73 مقعدا برلمانيا في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر، ما جعله أكبر كتلة في البرلمان المؤلف من 329 مقعدا.

ويرى الأستاذ في جامعة كوبنهاغن فنار حداد أن رجل الدين أجرى مذاك سلسلة من المناورات الفاشلة "لتكريس هيمنته داخل النظام السياسي وإزاحة منافسيه".

وقد فشل مقتدى الصدر في تشكيل حكومة جديدة رغم محاولات تشكيل تحالف مع فاعلين سياسيين سنة وأكراد.

اثر ذلك أمر الصدر في حزيران/يونيو نواب تياره البالغ عددهم 73 بالاستقالة في محاولة لزعزعة استقرار البرلمان، لكن النتيجة جاءت عكسيّة إذ منحت الخطوة الإطار التنسيقي مقاعد جديدة ليصير أكبر كتلة في المجلس.

واعتبر حداد أن الأحداث الأخيرة في المنطقة الخضراء في بغداد بمثابة فشل تكتيكي آخر.

وقال إن "الإطار التنسيقي لم يصدر تصريحات تصالحية أو تنازلات أو أي شيء من هذا القبيل" بعد أن طلب الصدر من أنصاره الانسحاب.

وأضاف "يدفع ذلك الجميع إلى مسار عقيم مليء بالمواقف المتضاربة... تبدو إمكانية المصالحة أضعف وليس العكس".

يشتهر الصدر بتراجعه عن تعهدات سابقة باعتزال السياسة قطعها مدى سنوات.

تحديات تكتيكية

وقال الباحث في مركز "سانشري إنترناشينول" سجاد جياد إن إعلان اعتزاله الأخير الاثنين جاء بعد سلسلة من التحديات التكتيكية التي واجهت صعوده السياسي بما في ذلك من داخل صفوف داعميه.

وقد أعلن الأحد المرجع الشيعي آية الله كاظم الحائري الذي يوفر غطاء دينيا للصدر ويقلّده العديد من الموالين له، عدم الاستمرار في التصدي للمرجعيّة ودعا مقلّديه إلى اتّباع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، ما يمثّل ضربة لشرعية مقتدى الصدر.

واعتبر جياد أن ذلك "هجوم على الصدر في شخصه وباعتباره قائدا".

وأضاف "الحائري مرشد ديني للصدر... ومقتدى كان حريصا دائما على القول إنه لا يتصرف من تلقاء نفسه بل له غطاء ديني من الحائري".

وقدّر جياد إنه في مواجهة التحديات المتزايدة، فإن لدى الصدر الآن خيارات محدودة وأقلها احتمالا هو التراجع خطوة إلى الوراء.

وتابع الخبير "يمكن أن يطلق احتجاجات أخرى ويضغط لمنع الإطار التنسيقي من تأليف حكومة".

وقد يستمر الصدر في الضغط من أجل حلّ البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وربما حتى التصعيد من خلال تحركات من شأنها أن تشل عمل الوزارات وحقول النفط، وفق سجاد جياد.

وختم الباحث "يبدو أن المأزق قد يستمر لفترة، لكن يبدو أيضًا أن المستقبل سيشهد مزيدا من التصعيد".