تمت الإشادة بإعادة الرفات التي قيل إنها تعود إلى مقاتلين من أجل الحرية في القرن التاسع عشر، باعتبارها رمزا للمصالحة، لكن الأوراق التي حصلت عليها صحيفة "تايمز" تكشف عن لفتة تشوشها السياسة.

إيلاف من بيروت: عندما أعادت الحكومة الفرنسية – وقبلت الجزائر – رفات 24 شخصا تم أخذها غنائم خلال الحكم الاستعماري الفرنسي، احتفلت الدولتان بهذه اللفتة القوية باعتبارها علامة فارقة في جهودهما لإعادة بناء العلاقات الثنائية. وقالت الحكومة الجزائرية إن هذه الرفات (جزء من واحدة من أكبر المجموعات في أوروبا في متحف الإنسان في باريس) تعود إلى "مقاتلي المقاومة"، وهم أبطال وطنيون في الجزائر ضحوا بأنفسهم لطرد المستعمر الفرنسي.

في وقت باكر من الشهر الجاري، عندما وصلت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن إلى الجزائر العاصمة في زيارة تستغرق يومين، أعرب نظيرها الجزائري، أيمن بن عبد الرحمن، عن ارتياحه لهذه العملية التي تمت في عام 2020. لكن الوثائق الصادرة عن المتحف والحكومة الفرنسية، والتي حصلت عليها صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخرا، تظهر أنه في حين أن ستة من الرفات التي أعيدت تم تحديدها بوضوح على أنها خاصة بمقاتلي المقاومة، فإن أصل الرفات الباقية لم تتأكد، وظلت جميعها ملكا لفرنسا حتى بعد تسليمها للجزائر. لم تعترف أي من الحكومتين علنا بهذه الحقائق في سعيهما إلى انتزاع منفعة دبلوماسية من الرد.

بدلا من ذلك، برزت العودة المعيبة، أيا كانت نيتها، كمثال على ما يقول العديد من الأكاديميين والمشرعين الفرنسيين إنه مشكلة أوسع نطاقا تتمثل في عمليات إعادة عابرة للأراضي غالبا ما تكون سرية ومشوشة وملائمة لسياسة فرنسا التي لم ترق إلى مستوى الطموحات بتصحيح أخطاء الحقبة الاستعمارية.

قالت كاثرين موران ديساي، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي من يمين الوسط التي عملت منذ فترة طويلة على إعادة الرفات: "سادت الأمور الدبلوماسية على المسائل التاريخية".

بموافقة البلدين

لم ترد الحكومة الجزائرية على طلبات للتعليق، ولا يزال من غير الواضح لماذا قبلت ببعض الرفات التي لم تكن لمقاتلي المقاومة، خاصة أنها كانت تنتقد بشدة جوانب من سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه البلاد، على الأقل حتى ذوبان الجليد مؤخرا. كذلك رفض مكتب ماكرون التعليق، وأعاد توجيه الأسئلة إلى وزارة الخارجية التي قالت إن قائمة الرفات التي أعيدت "حصلت على موافقة الطرفين".

في الواقع، تمت إعادة الرفات بموجب اتفاق وقعته الحكومتان في 26 يونيو 2020، تضمن ملحقا من أربع صفحات يوضح بالتفصيل هويات الرفات. وأظهرت الوثيقة التي حصلت عليها "تايمز" أن من بينهم لصوص مسجونون وثلاثة مشاة جزائريين خدموا بالفعل في الجيش الفرنسي. وقال تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي إن عملية الاسترداد هذه تمت "في ظل غموض كبير، ما أعطى انطباعا بأن المسائل الدبلوماسية تفوق كل شيء آخر". ولا يزال حجم المشكلة غامضا إلى حد كبير، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالرفات البشرية؛ إذ يحتوي متحف البشرية على ما يقرب من 18000 بقايا من جميع أنحاء العالم. وأكد تقرير سري أصدره المتحف في عام 2018، حصلت عليه صحيفة "تايمز"، أنه يحتفظ بمئات الرفات "التي يحتمل أن تكون موضوع قضايا" والتي يمكن طلبها في المستقبل، وهي تشمل رفاتًا تعود إلى زوجة مؤسس إمبراطورية توكولور في غرب أفريقيا في القرن التاسع عشر، وبقايا أمير حرب سوداني حكم جزءا من تشاد في تسعينيات القرن التاسع عشر، ورفات عائلة من الإنويت الكنديين عرضت في "حديقة بشرية" في باريس في عام 1881.

اكتشاف "وحشي"

ظهر وجود الرفات الجزائرية لأول مرة في أوائل عام 2010، عندما بدأ علي فريد بلقاضي، وهو مؤرخ جزائري، البحث في متحف البشرية. يعود تاريخها إلى القرن العشرين، تم جمعها خلال الحفريات الأثرية والحملات الاستعمارية، وكانت ذات يوم تحظى بتقدير العلماء الذين يستكشفون الاختلافات العرقية. ومن بينهم العشرات من زعماء القبائل في غرب أفريقيا والأميركيين الأصليين والمتمردين الكمبوديين. اكتشف بلقاضي أن المتحف لا يزال يحتوي على رفات من مقاتلي المقاومة والمدنيين مقطوعي الرأس خلال غزو فرنسا للجزائر في القرن التاسع عشر، تم الاحتفاظ بها في صناديق من الورق المقوى، وكان من بينها رفات قادة المقاومة في معركة زعتشا، وهي قرية سحقتها القوات الفرنسية بعنف في عام 1849. تم عرض الرؤوس على أعمدة ثم أعيدت لاحقا إلى فرنسا بوصفها غنائم حرب. ووصف بلقاضي هذا الاكتشاف بأنه "وحشي ينمّ عن البربرية الاستعمارية".

وقام بلقاضي وآخرون بحملة لسنوات من أجل إعادة رفات المقاتلين إلى أوطانهم. في عام 2017، بعد أن قالت السلطات الجزائرية إنها تريد استعادتهم، أعلن ماكرون أنه وافق على "إعادة رفات الشهداء الجزائريين". وشكلت لجنة فرنسية جزائرية لتحديد هوية الرفات التي يمكن إعادتها. لقد كانت خطوة رئيسية في جهود ماكرون للمصالحة مع الجزائر من خلال أعمال رمزية للاعتراف بالجرائم الاستعمارية الفرنسية. لكنه يعني أيضا الضرب على وتر حساس.

وعلى عكس دول أخرى، مثل ألمانيا، لم تضع فرنسا أبدا سياسة واضحة في ما يتعلق بمجموعاتها من بقايا الحقبة الاستعمارية، وفقا لتقرير مجلس الشيوخ. ولم تتم إعادة سوى نحو 20 مجموعة من الرفات على مدى العقدين الماضيين، إلى دول مثل جنوب أفريقيا أو نيوزيلندا، بعد سنوات من المقاومة الشديدة. وجزء من السبب هو أن الأشياء الموجودة في المجموعات العامة الفرنسية تعتبر ملكا لفرنسا ولا يمكنها تغيير ملكيتها ما لم يتم التصويت على مبدأ الاستعادة ليصبح قانونا، وهذه عملية مرهقة وتستغرق وقتا طويلا.

لكن كلارا بوير روسول، المؤرخة التي درست رفاتاً من مدغشقر، قالت إنه على الرغم من الجهود الأخيرة لمزيد من الشفافية، فإن مجموعات الرفات في متحف البشرية ظلت ضمن "غموض معين" خوفا من أن تفتح البحوث الباب على مصراعيه لطلبات الاسترداد وتلقي ضوءًا على الإرث الاستعماري الفرنسي.

رهانات سياسية

بدأت لجنة إعادة الرفات إلى الجزائر العمل في هذه الخلفية المشحونة في أواخر عام 2018. وبحلول يونيو 2020، حددت 24 طائرة يمكن إعادتها، من أصل 45 حالة تعود إلى الاستعمار الفرنسي. لكن البحث تم اختصاره من قبل مكتب ماكرون الذي أراد إعادة الرفات بحلول 5 يوليو، في يوم استقلال الجزائر. كان ماكرون على وشك إعطاء دفعة أكثر طموحا لجهوده في التقارب مع الجزائر من خلال التكليف بإعداد تقرير يعالج مظالم الحقبة الاستعمارية، ويبدو أنه كان يأمل في إقناع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، بالتعاون.

"هناك رهانات سياسية خارجة عن سيطرتنا"، كما قالت كريستين لوفيفر، وهي مسؤولة كبيرة في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، الذي يلقي نظرة عامة على متحف البشرية. واعترفت قائلة: "من الواضح أنهم ليسوا جميعا مقاتلين"، في إشارة إلى الرفات.

وقال أوزولياس، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، إن ماكرون كان بحاجة إلى تقديم غصن زيتون للجزائر. "كان هناك رفات. لقد استخدمهم لذلك".

من بين الرفات الـ 24 التي أعيدت، تم تحديد ستة فقط بوضوح على أنها تنتمي إلى مقاتلي المقاومة، وفقا لمذكرات المتحف واتفاق العودة، الذي حصلت عليه صحيفة التايمز. وقد تنتمي عدة رفات لأسرى الحرب والوعاظ ومقاتلين مناهضين للاستعمار، لكن المتحف لم يحددها صراحة على هذا النحو في مذكراته. وحتى عندما علمت السلطات الفرنسية والجزائرية بالأصول المشكوك فيها للرفات، التزمت الصمت. ووصفت فرنسا إعادة الرفات بأنها بادرة "صداقة"، وقالت الجزائر إن البلدين يتجهان نحو "علاقات استرضاء".

وجاء في الاتفاق أن الرفات أعيرت إلى الجزائر "خمس سنوات"، في انتظار الاسترداد الملائم المنصوص عليه في القانون، والذي لا يزال غير موجود.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية