النظام المافيوي الذي عرفته صقلية سابقًا بلغ أعلى درجات الإتقان في لبنان.
إيلاف من بيروت: غالبًا ما يُنظَر إلى الأعمال الإجرامية بأنها تُمارَس على هوامش المجتمع، ولكن ذلك غير صحيح في أماكن كثيرة. ويُعدّ لبنان وصقلية مثالَين على ذلك، حيث يمكن استقاء الدروس من التفاعل المستمر بين الجريمة والمجتمع، وحيث استمرّت الأعمال الإجرامية من خلال الاندماج في أنشطة الدولة. هكذا بدأ مايكل يونغ مقالته المنشورة في موقع "مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط"، والتي وصف فيها المجتمع المافيوي الذي يتحكم برقاب اللبنانيين، وقارنه بمجتمع المافيا المشهورية في صقلية.
أوجه تشابه كثيرة
يقول يونغ إن أوجه التشابه بين لبنان وصقلية كثيرة، "وربما تحمل مؤشرات عن الأسباب التي جعلت القضاء يواجه صعوبة في فرض القانون على مجتمعات بُنيت، من نواحٍ كثيرة، على أُسس متعارضة مع الدولة". بحسبه، تعرّض كلاهما للغزو من قوى متعدّدة، فتجذّرت لديهما موروثات سياسية متناقضة، لا بل متصادمة. يضيف: "في صقلية ولبنان، نَزَعت الروابط الاجتماعية التقليدية إلى الحلول مكان الوساطة التي تقوم بها مؤسسات الدولة الحديثة، فيما شكّل الدين أداةً للنزعة غير الليبرالية المسبِّبة للشلل، ومحرّكًا ظرفيًا للإصلاح. وفي الحالتَين، كان الرد التقليدي المفضّل على الانتهاكات السائدة في كل مكان التزام الصمت بصورة عامة، ولو مع استثناءات لافتة".
يلاحظ يونغ أن للمافيا والطبقة السياسية اللتين أحكمتا سيطرتهما على لبنان في نهاية الحرب الأهلية في العام 1990 مساراً مشابهاً جدًّا لمساؤ المافيا الصقلية، "فقد استغلّت كلتاهما المراحل الانتقالية الكبرى في تاريخ البلاد كي ترسّخا، في مشهد انفصامي، شبكاتهما الإجرامية في آليات الحوكمة الشرعية". كانت المحطة الأساسية بالنسبة إلى المافيا الصقلية حين قام مَن كانوا يسعون وراء توحيد إيطاليا بطرد آل بوربون من مملكة الصقليتَين في جنوب إيطاليا في عام 1860. توصّلت المافيا إلى اتفاقات ضمنية مع السلطات السياسية والأمنية من خلال الحفاظ على النظام، ولاحقًا المساعدة في تأمين أصوات في الانتخابات. وبالفعل، شاركت المافيا بنشاط في إرساء سلطة الدولة الإيطالية الجديدة في صقلية، فيما كانت السياسة الحكومية تتأرجح بشكل لا يمكن التنبّؤ به بين قمع المافيا تارةً ورعايتها طورًا.
نظام يرعى الفساد
أما في لبنان، بحسب يونغ، فقد خرجت البلاد من الحرب في عام 1990، لكن بقي الحال على ما كان عليه خلال النزاع. يضيف: "الجهة الراعية الأساسية لمنظومة ما بعد الحرب لم تكن الدولة اللبنانية، مثلما كانت الدولة في إيطاليا، بل النظام السوري. أتاح ذلك لمعظم زعماء الميليشيات الطائفية رسم معالم جمهورية السلم وفقًا لأهواء مصالحهم السياسية والمالية وشبكات محسوبياتهم التي دعمها السوريون بكل طيبة خاطر، لأنهم انتزعوا هم أيضًا مكاسب هائلة من الفساد الذي وسم مرحلة إعادة إعمار لبنان. لم يرتكز لبنان في مرحلة ما بعد الحرب على تفاهم بين الدولة والمكوّن الإجرامي، بل سيطرت على الدولة بالكامل قيادة سياسية طائفية أمّنت استمراريتها المالية في سنوات الحرب من خلال سلوكٍ اقتصادي إجرامي".
تلقّت المافيا الصقلية ضربة قوية بين عامَي 1986 و1992 حين أقام القضاء الإيطالي محاكمة كبرى في باليرمو لنحو 475 عنصرًا في المافيا، بفضل شهادات أدلى بها منشقّون عن المافيا، إلى أن تم اغتيال القضاة المشاركون في المحاكمة. أثار ذلك غضبًا شعبيًا عارمًا، فأرسلت الحكومة الإيطالية جيشها إلى صقلية لاعتقال زعماء المافيا. واج ممثلو الطبقة السياسية الإيطالية – أبرزهم جوليو أندريوتي - اتّهامات بارتباطهم مع المافيا، "وانهارت أحزاب كبرى بعد ما عُرف بفضيحة تانجينتوبولي (مدينة الرشى) في مطلع التسعينيات، والتي كشفت عن طرق التمويل غير المشروعة للأحزاب السياسية الإيطالية الكبرى"، بحسب يونغ، الذي يضيف: "واجه لبنان وضعًا مماثلًا ربما في أغسطس 2020، حين وقع انفجار في مرفأ بيروت أسفر عن دمار نصف المدينة وعن مقتل أكثر من 200 شخص".
كان الكثير من الأحزاب اللبنانية متورّط في أفعال سمحت بحدوث كارثة المرفأ، "لكن القادة السياسيين عمدوا إلى احتواء السخط الشعبي من خلال الضرب على وتر الحساسيات الطائفية، بحيث أصبح قاضي التحقيق طارق بيطار في مرمى الاستهداف من القوى السياسية بعد سعيه إلى استجواب قادتها. إذًا، تفوّقت صقلية على لبنان من حيث تمتّعها بسلطة قضائية كانت مستعدة لبذل المستحيل على الرغم من المخاطر المهولة، إضافةً إلى سياسيين يمتلكون حدًّا أدنى من احترام الذات".
أصحاب الجريمة الكاملة
يتابع يونغ توصيف الحال في لبنان. يقول: "إن النموذج الذي أظهرته صقلية وطبّقه لبنان بإتقان هو أن المنظمات الإجرامية العالمية الناجحة تستند إلى ميثاق بين من يتولّون الحكم ومن يرتكبون الجرائم، يقضي بأن يُكلَّف المجرمون بمسؤوليات محدّدة في الدولة، وأن تعتمد الدولة على مساعدة المجرمين في الشؤون المحظورة قانونيًا". يضيف: "لكن في لبنان، نقترب أكثر من الجمهورية الإجرامية الكاملة. فهنا، من يرتكبون الجرائم يتولّون أنفسهم مناصب رفيعة في الحكم، ويتغلغلون في أجهزة الدولة كافة، بدءًا من المؤسسات الأمنية ومؤسسات الدفاع الوطني، ومرورًا بالسلك القضائي، ووصولًا إلى المؤسسات التعليمية وحتى الاتحادات الرياضية".
لفترة وجيزة في أكتوبر 2019، اهتزّت أركان النسخة اللبنانية من "كوزا نوسترا" قبل أن يستعيد السياسيون توازنهم، وقبل أن تغادر لبنان أعداد كبيرة من ثوّار الطبقة الوسطى المنادين بالتغيير.
يختم يونغ مقالته بالقول: "لم يسمع معظم الصقليين بلبنان، ومعظم اللبنانيين لا يعرفون الكثير عن صقلية. لكن، بشكل غريب، ثمة يدٌ خفية تمتدّ عبر البحر الأبيض المتوسط لتجمع بين هَذين المكانَين اللافتين. وإذا كنتَ يقظًا قليلًا فستشعر بهذه اليد تنسلّ إلى جيوبك لتُفرغ ما فيها".
أعدت "إيلاف" هذه القراءة عن مقالة كتبها مايكل يونغ ونشرها موقع "مركز مالكولم كير-كارنيغي الشرق الأوسط"
التعليقات