كلما ورد ذكر جباليا ومخيمها للاجئين في شمال قطاع غزة، أتذكر تلك الأيام التي كنت أجول فيها في هذه المنطقة، قبل أن أغادر القطاع كله قبل شهور قليلة، في غمار الحرب الدائرة في أراضيه.

وقتذاك، كنت أشتم بمجرد اقترابي من مدخل منطقة الفالوجا في المخيم، والتي كانت تعج بالحياة وبمختلف أنواع المحال التجارية، رائحة المخبوزات الطازجة، التي تفوح من مخبز كان يشتهر هناك بمخبوزاته الساخنة المحشوة بالشيكولاته الذائبة، والمعروفة محليا بـ " العوقاه".

لكنني علمت قبل أيام، أن المخبز تعرض للقصف، خلال العملية العسكرية الإسرائيلية المتواصلة في جباليا ومناطق أخرى من شمال قطاع غزة، ما أدى لاشتعال النيران فيه، إلى أن التهمته عن بكرة أبيه. فشلت طواقم الدفاع المدني، في الوصول إليه بسبب هذه العملية العسكرية، وهو ما حوَّل رائحة المخبوزات إلى مزيج من روائح النار والبارود والرماد من أثر الحريق.

ويضم شمال غزة مناطق بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا.

نداءات استغاثة متواصلة

وفي غمار هذه العملية، وهي الثالثة من نوعها في المناطق الشمالية من قطاع غزة منذ اندلاع الحرب في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، تتوالى نداءات الاستغاثة التي تصلني من جباليا، مسقط رأسي الذي كنت أعيش فيه قبل مغادرتي لغزة.

من بينها رسالة وصلتني من صديق لي يُدعى محمد النجار، روى فيها كيف فشل في تهدئة روع أطفاله، بعدما أصابتهم أصوات الانفجارات القوية المحيطة بهم بالرعب، نظرا لأنه هو نفسه أصيب بالخوف والهلع، بعدما سقطت بعض القذائف أسفل المنزل.

وحالت هذه النوبة من الخوف دون أن يتمكن حتى من تفقد منزله، للتعرف على ما لحق به من أضرار.

ولا يختلف ما يقوله باقي السكان، ممن ينشرون استغاثاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام المحلية في غزة، عما استمعت له من صديقي.

فهم يقولون إنهم يعيشون حاليا، ما وصفوه بـ "أهوال يوم القيامة"، جراء القصف الجوي والمدفعي، وذلك الذي تشنه الزوارق الحربية، بجانب إطلاق النار من الدبابات خلال تقدمها في أحياء المنطقة، ما أثار حالة من الرعب والخوف الشديديْن في صفوف من تبقى من سكان شمال غزة.

ويطالب هؤلاء السكان العالم، بالعمل على تأمين ممرات آمنة لهم، للخروج بسلام من جباليا، قائلين إن الجيش الإسرائيلي يطالبهم بالإخلاء الفوري، ويقوم في الوقت ذاته، بإطلاق النار على كل من يخرج من المنطقة على حد تعبيرهم، بل ويشيرون مثلا إلى أن عشرة نازحين قُتِلوا مؤخرا برصاص طائرات مُسيَّرة، أثناء محاولتهم الخروج من مخيم جباليا.

وقال أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لوسائل الإعلام العربية، في تغريدة على موقع إكس مخاطبا سكان جباليا تحديدا إن عليهم مغادرة منازلهم والمآوي التي يتواجدون فيها فورا، موضحا أن "العمل توقف مؤقتا لكن النيران ستستأنف من جديد قريبا".

ودعا أدرعي السكان إلى التحرك عبر شارع "الترنس" إلى شارع صلاح الدين فقط والانتقال جنوبا، قائلا إن "التحرك جنوبا في محور آخر قد يعرضكم للخطر. هذه فرصتكم".

ويقول الجيش الإسرائيلي إن تطويق قواته لجباليا، يأتي بعد تقييم أفاد بأن حركة حماس تعيد بناء قدراتها هناك. ويشير إلى أن سلاح الجو التابع له يضرب عشرات "الأهداف العسكرية" في هذه المدينة، من أجل مساعدة القوات البرية العاملة هناك.

وفي سياق حديثه عن هذه العمليات، يقول الجيش الإسرائيلي إن هناك معلومات استخباراتية تفيد بـ "وجود إرهابيين وبنى إرهابية في المنطقة، إلى جانب محاولات لترميم بنى إرهابية من قبل حماس".

الإمدادات وانتشال القتلى

مخيم جباليا
Getty Images
فلسطينيون يفرون هروبا من القصف الإسراائيلي على مخيم جباليا، في التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) 2024

ومن جهته، يتهم جهاز الدفاع المدني الفلسطيني في قطاع غزة، الجيش الإسرائيلي بفرض "حصار مطبق" على شمال قطاع غزة، ما يعزله عن مدينة غزة بشكل كامل.

ويقول إن الجيش يمنع منذ أيام دخول الإمدادات الأساسية للمناطق الشمالية، ما يهدد – كما يشير الجهاز - حياة الفلسطينيين الموجودين هناك.

وبحسب الدفاع المدني الفلسطيني، لا تزال عشرات الجثث ملقاة في الطرقات شمالي القطاع، دون أن يتم انتشالها "بسبب القصف الإسرائيلي المستمر والعنيف".

ويتهم جهاز الدفاع المدني الفلسطيني الجيش الإسرائيلي كذلك، بتدمير البنية التحتية في جباليا، ما يجعل التنقل عبر أنحائها أمرا شبه مستحيل، محذرا في الوقت ذاته من أن ما وصفه بـ "إجبار" المستشفيات في شمالي القطاع على إجلاء من فيها سوف يتسبب في انهيار كامل للنظام الصحي، ما يفاقم معاناة الفلسطينيين الموجودين في هذه المنطقة.

وكانت وزارة الصحة الفلسطينية قد قالت، قبل أيام، إن القوات الإسرائيلية تحاصر المستشفيات الرئيسية الثلاثة، في محافظة شمال قطاع غزة، وهي "كمال عدوان" و"الإندونيسي" و"العودة"، وتطالب بإخلائها فورا، لا سيما مستشفى "كمال عدوان".

وقال مدير هذا المستشفى، حسام أبو صفية، إنه تلقي ما وصفه بـ "اتصال وتهديد مباشر" من ضابط في الجيش الإسرائيلي، طالبه فيه بالخروج مع كل الموجودين في تلك المنشأة الطبية "وإلا فإنهم يعرضون حياتهم للخطر"، على حد تعبير أبو صفية.

موجات النزوح تتواصل

خلال الأيام الأولى للعملية العسكرية الإسرائيلية الحالية في شمالي قطاع غزة، نزح آلاف السكان وتفرقوا في مناطق القطاع الأخرى. لكنّ آلافا آخرين، لا يزالون داخل بيوتهم أو ما تبقى منها، رغم توجيه الجيش الإسرائيلي نداءات لهم لمطالبتهم بالمغادرة، سواء عبر منشورات تلقيها الطائرات، أو من خلال رسائل مسجلة موجهة عبر الهواتف.

أولئك السكان يقولون إنهم لا يؤمنون بوجود أي مكان آمن في القطاع، ويتشككون أيضا في مصداقية ما يعلنه الجيش، عن وجود "ممرات آمنة" تكفل لهم الخروج بسلام، مشيرين إلى أن الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية، تسيطر على غالبية مفترقات الطرق الرئيسية.

كما يقول سكان متبقون في محافظة شمال غزة، إن طائرات الاستطلاع، التي تُعرف بـ "الكواد كابتر"، تطلق النار على كل من يتحرك في مناطق تلك المحافظة، وسط قصف لا يتوقف من الجو والبر، بحسب تعبيرهم.

وفي منشور عبر منصة "إكس" قال فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، إن "ما لا يقل عن 400 ألف شخص محاصرون" في شمال قطاع غزة، معتبرا أن "أوامر الإخلاء الإسرائيلية تجبر الناس على الفرار مرارا وتكرارا، خصوصا من مخيم جباليا".

وأضاف لازاريني في تدوينته، أن عددا كبيرا من الفلسطينيين يرفضون الإخلاء، "لأنهم يعرفون جيدا أن لا مكان آمن في قطاع غزة".

كما أشار إلى أن تواصل القصف الإسرائيلي يهدد تنفيذ المرحلة الثانية، من حملة التطعيم ضد مرض شلل الأطفال بقطاع غزة، وهي الحملة التي كانت مرحلتها الأولى قد نُفِذَت في وسط القطاع، في مطلع سبتمبر/أيلول الماضي.

"خطة الجنرالات"

تثير العمليات العسكرية الإسرائيلية الحالية في شمالي قطاع غزة تساؤلات، حول ما إذا كانت تمثل بداية فعلية لتنفيذ ما يُعرف بـ "خطة الجنرالات" في هذه المنطقة، عبر إجبار سكانها على مغادرتها.

وتستهدف الخطة، التي قدمها جنرالات سابقون في الجيش الإسرائيلي على رأسهم الجنرال المتقاعد غيورا آيلاند لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، السعي للقضاء بشكل كامل على أي وجود لحركة حماس شمالي القطاع، من خلال إفراغ هذه المنطقة تماما من سكانها.

وتتحدث الخطة، وفقا لما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية، عن تحويل شمالي قطاع غزة إلى "منطقة عسكرية مغلقة"، ومنع دخول المساعدات الإنسانية إليها بعد إجلاء السكان منها.

وكانت إذاعة الجيش الإسرائيلي قد قالت، في وقت سابق، إن نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت صدَّقا على دراسة العمليات، التي يمكن تنفيذها في شمالي غزة على أساس هذه الخطة.

ونُقِلَ عن رئيس الحكومة الإسرائيلية قوله، خلال جلسة مغلقة في الكنيست عُقِدَت قبل أسابيع، إنه يدرس تلك الخطة واصفا إياها بـ "المنطقية".

وبحسب مسؤولين محليين في مناطق شمالي قطاع غزة، أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي نُفِذَت في هذه المناطق منذ نشوب الحرب، إلى تدمير أكثر من ثمانين في المئة من البنية التحتية هناك، علاوة على قتل وجرح آلاف الأشخاص، وفقا لتقديراتهم.