مأمون فندي


نقل سورية من المربع الإيراني إلى المربع العربي، محوري في أي تصور للاستقرار الإقليمي، وفي إطفاء الحرائق المشتعلة في المنطقة. فإيران اليوم تلعب دورا خطيرا في ثلاثة ملفات رئيسية عربية بالأصالة، وطريقها إلى هذا هو سورية. لذا ففطام سورية عن الثدي الإيراني، وإدارة وجهها تجاه أمتها العربية، ستساعدان كثيرا في حل الأزمة التي تتصاعد في العالم العربي. وما فك الارتباط بين سورية وإيران بالأمر الهين، فهو يستوجب فهما للسياق العام، الذي تتحرك فيه هذه العلاقة الخاصة، إضافة إلى إلمام تام بالمصالح المرتبطة بحزمة من الملفات الساخنة، كما يتطلب ايضا التعامل مع أميركا الآن كدولة جوار إقليمية همها الأول اليوم هو استقرار الوضع في العراق.

بداية، وهذا القول قد لا يسعد السوريين اليوم، لا بد لنا أن نفرق بين علاقة سورية بإيران في عهد laquo;الأسد الأبraquo;، حيث كانت إيران في خدمة المصالح السورية، أما في عهد laquo;الأسد الابنraquo; فقد انعكست المعادلة، وأصبحت سورية أداة في يد إيران لتعظيم الدور الإيراني الإقليمي. فالنفوذ الإيراني اليوم يتمدد إلى لبنان عبر سورية، ويتمدد إلى الملف الفلسطيني عبر قيادات تحتضنها سورية (خالد مشعل، محمد نزال، وغيرهما)، وربما يتمدد هذا النفوذ أيضا إلى العراق عبر سورية، ولو أن لإيران، كما هو معروف، أصابعها الأخرى في العراق. وهذا فرق جوهري بين الأب والابن لا بد من فهمه في أي محاولة لفك الارتباط بين سورية وإيران. تقليم أظافر إيران لإبعادها عن الملفات العربية، أمر أساسي للاستقرار، كما هو أساسي في أي استراتيجية تطمح لإعادة سورية إلى المعسكر العربي. ولكن ما هو المقابل الذي يمكنه إرضاء دمشق؟ أو بصيغة أخرى، ما الذي يمكن أن تقدمه أميركا والعرب لسورية كمكافأة لها على تغيير سلوكها؟

لنبدأ بسقف المطالب السورية، لكي تفك ارتباطها بإيران. سورية لن تقبل بأقل من الجولان وعودته إليها. وقد يكون بإمكان بعض العواصم العربية لعب دور في فتح قنوات لحوار سوري أميركي في هذا الاتجاه ـ ولكن على السوريين هنا أن يكونوا أذكياء في التفريق بين عاصمة عربية سدت جميع أبواب واشنطن في وجهها، وتستخدم الملف السوري وغيره من الملفات العربية بشكل تطوعي كي تفتح لها الأبواب ثانية، وعواصم عربية أخرى لها وزن وكلمة مسموعة ـ وحتى في حالة الدول العربية ذات الكلمة المسموعة، فإن الأمر ليس بالسهولة التي نتصورها، فأوراق العرب في هذه اللعبة ضعيفة، إذا ما أخذنا في الاعتبار فارق القوة بين الطرفين، أضف إلى ذلك أن رغبة أميركا في الضغط على إسرائيل هي أمر مشكوك فيه، إلا إذا حصلت من الدول التي تجاور العراق على تطمينات أساسية في ما يخص مصلحة الإدارة الأميركية الحالية الملحة في الملف العراقي. إذن المعادلة الأميركية الجديدة ليست laquo;الأرض مقابل السلامraquo;، بل هي laquo;السلام مقابل استقرار العراقraquo;. إذا لم يفهم العرب هذه المعادلة الجديدة، فإن أي محاولة لجر أميركا إلى ملف السلام ستكون غير مجدية.

هذا الدور الإيجابي، الذي تريده واشنطن من جيران العراق، كي تبادله بالضغط على إسرائيل لفتح حوار حول الجولان مع سورية، يستلزم حلين أحدهما ديني والآخر سياسي لسؤال الشيعة في العراق والمنطقة عموما، يهدفان إلى فك الارتباط بين إيران والشيعة العرب، بداية الحل الديني هي عمل عربي جاد لنقل المرجعية على المستوى الديني من قم إلى النجف، وبداية الحل السياسي، القبول بدور شيعي عربي في العراق، وقد يتطلب ذلك التعامل مع سؤال شيعة الخليج عموما.

لكن هل هذا الأمر وحده (أي عزل سورية عن إيران) كاف لإحلال الاستقرار في المنطقة؟ ظني أن هذا السيناريو يكون كافيا في حالة واحدة، وهي إذا ما استطاعت الدول العربية، وربما معها الولايات المتحدة، تحييد أذرع إيران من المعادلة الإقليمية في المنطقة المتمثلة في حركات مثل laquo;حماسraquo; وlaquo;حزب اللهraquo; وlaquo;الجهاد الإسلاميraquo;. هذا التحييد لا يأتي إلا عن طريق دمشق، أي أن دمشق مفتاح الحل فيه، ولا بد لها (سورية) أن تكون لاعبا قادرا على مقايضة laquo;حماسraquo; وlaquo;حزب اللهraquo; وlaquo;الجهاد الإسلاميraquo; بالجولان.

إنها رقصة مركبة! قد ترضي دمشق، ولكن السوريين لا يطمئنون إلى مثل هذه المعادلة غير مضمونة النتائج. إن عودة الجولان غير مضمونة بالنسبة إليهم إذا كان الطريق إليها هو الضغط الأميركي... يتمنون أن يحدث هذا بالطبع، ولكنهم غير واثقين من ذلك!

وقبل أن نتحدث عن عودة الجولان، لا بد أن نعرف لماذا الجولان بالنسبة للنظام السوري؟ لنترك جانبا مسألة عودة الفرع إلى الأصل، أو عودة أرض الجولان إلى سورية الأم.. هذه لافتات سياسية، ولكنها ليست الأصل. الأمر الأهم بالنسبة لأي نظام سياسي ـ وسورية في ذلك ليست استثناء ـ هو قوة شرعية النظام في الداخل، فعودة الجولان تجعل من الأسد بطلا تاريخيا في الداخل السوري. ولأجل هذا بالضبط، يهتم النظام في سورية بعودة الجولان كورقة سياسية في معادلة الشرعية والاستقرار الداخلي.

ولكن إذا لم يستطع العرب تقديم السيناريو السابق المتمثل في تحريك موضوع الجولان لإعادة سورية إلى الصف العربي، فما الذي يمكن لهم أن يقدموه لسورية، ويتجنبوا به المسألة المعقدة الخاصة بالضغط على أميركا، إلى آخر هذه العملية غير مضمونة النتائج؟ عليهم أن يجدوا صيغا ممكنة، وlaquo;في يدهمraquo;، لإخراج سورية من الدائرة الإيرانية. في يد بعض الدول العربية المحورية أوراق اقتصادية وسياسية، يمكن استخدامها لعزل سورية عن إيران. على المستوى الاقتصادي، تستطيع هذه الدول، خصوصا الغنية منها، laquo;رشوةraquo; النظام السوري، أي الالتزام بمساعدة سورية اقتصاديا. ولكن هل هذه laquo;الرشوة الاقتصاديةraquo; كافية وحدها لإغراء سورية بالانتقال المطلوب؟ بالطبع لن تكون كافية في laquo;بازاراتraquo; دمشق! إذن ما الذي يمكن للدول العربية أن تقدمه أيضا لسورية؟

يمكن للدول العربية أن تدخل في مفاوضات مع دمشق حول الملف اللبناني شديد التعقيد، آخذة في الاعتبار ما يمكن تسميته بالمخاوف السورية المشروعة في ما يخص عمقها الاستراتيجي التاريخي في لبنان، وارتباطات البلدين التاريخية والبشرية. أي أن يعود العرب مرة أخرى إلى مرحلة laquo;الطائفraquo;، بمعنى أن سورية هي البلد العربي الأقرب والأقدر على ضبط الوضع في لبنان، لتجنب حرب أهلية.

إذا كان هذا هو الحل، فهذا يعني أن سورية قد خرجت من الباب اللبناني بالقرار الدولي 1559، وعادت من الشباك بإجماع عربي مرة أخرى، قد تكون العودة بصيغة مختلفة لا تعطي السوريين النفوذ السياسي والأمني نفسه الذي كان لهم في ما مضى، أو نفس حجم الوجود العسكري السابق. كذلك يستطيع العرب أن يضغطوا على الولايات المتحدة للتخلي عن مسألة تدويل التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري، ونقل الملف من الحالة الدولية إلى الحالة العربية، ليحل في صيغة توافقية تحت غطاء الجامعة العربية أو من خلال أي آلية أخرى.الرشوة الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، والقبول بمسألة العمق الاستراتيجي السوري في لبنان هما أمران يمكن للدول العربية أن تقدماهما لسورية. وظني أنهما سيكونان كافيين ليترك السوريون إيران، ليس غدا، وإنما لحظة العرض ذاتها. إذن المسألة وفقا للمصالح السورية رهن أحد حلين، إما الجولان أو لبنان.. لنحاول تقييم الحلين بصيغة محايدة بعيدا عن الصفقات السياسية.

السيناريو الأول، الخاص بعودة الجولان، ممكن لولا التعنت الإسرائيلي، وربما عدم صدق النية الأميركية. فالجولان، حتى من وجهة نظر بعض العقلاء في إسرائيل، لم يعد بالأهمية الاستراتيجية التي كان يدعيها قادة إسرائيل في عام 1967، وخصوصا بعد تطوير الصواريخ البالستية التي جعلت مسألة الأرض مسألة استراتيجية أقل بكثير مما كانت عليه في الماضي. كما أن العالم كله يعرف لو أعادت إسرائيل الجولان في صفقة سلام، ومن خلال اتفاق دولي، فإن سورية ستلتزم بالسلام، بنفس الصرامة التي التزمت بها في الهدنة.

سيناريو العودة إلى لبنان، هو سيناريو سيئ، لكننا لا نتحدث هنا عن عودة قوات وجيوش ومخابرات، بقدر ما نتحدث عن قبول عربي لدور سوري في لبنان، يراعي خصوصية العلاقة اللبنانية ـ السورية، ولكن مما لا شك فيه أن هذا السيناريو يزعج اللبنانيين كثيرا.

إذا كانت الاستراتيجية العربية هي عودة سورية إلى الصف العربي، وإذا كانت الاستراتيجية الأميركية تدفع إلى فك الارتباط السوري ـ الإيراني، فليس هناك، كما أوضحت، سوى طريقين: لبنان أو الجولان، هذا إذا استبعدنا سيناريو المواجهة!