علاء الدين الأعرجي

ذكريات سياسية بعيدة ودروس جديدة


في الخمسينيات من القرن الماضي حينما كنا شبابا يافعين ومتحمسين، ولكننا واعون كل الوعي بما نحن فيه من تخلف، وفقر وجهل، كنا ننحي باللائمة علي الانكليز فيما يتعلق بجميع مشكلاتنا المتفرعة عن تلك الآفات. لا سيما لأننا كنا نعتبر بلدنا العراق، الذي يملك جميع مقومات النهوض والتقدم، جزءا من ممتلكات بريطانيا العظمي، علي الرغم من وجود ملك ودستور ومجلس أمة، ونتندر علي هذه المؤسسات فنردد قول شاعرنا العراقي الشيخ باقر الشبيبي:
مَلِكٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ
كلٌ من المعني الصحيح ِ مُجرد ُ
المستشارُ هو الذي شَرِبَ الطِلي
فعلامَ يا هذا الوزيرُ تُعَربِدُ؟
(الطِلي، الخمرة. المستشار ، هو المستشار الانكليزي الذي كان يعين من جانب السفير البريطاني في كل وزارة، بغرض أن يستشيره الوزير، اذا شاء نظريا. وعمليا فان جميع القرارات الوزارية لا تصدر الا بموافقته. وفي الواقع كان هو الوزير الفعلي، والوزير العراقي دمية يحركها المستشار. لذلك يتهكم عليه الشاعر بهذا الأسلوب البليغ والهزلي).
وعندما كنا نلتهم يوميا مقالات صحيفة الأهالي ، التي كان يصدرها الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي، وهو من الزعماء الديمقراطيين المحترمين؛ ونقرأ بعض ما يحدث في مجلس الأمة من تحديات صديق الانكليز نوري السعيد، رئيس الوزراء، لقلة من أعضاء المجلس الأحرار المعارضين من أمثال صادق البصام وحسين جميل والسيد عبد المهدي المنتفجي والشيخ محمد رضا الشبيبي وغيرهم (وهؤلاء خليط من السنة والشيعة، ولم تكن هذه المسألة ذات أهمية لنا اطلاقا، بل لم تكن مطروحة أصلا، فنحن، وجميع طوائف الشعب العراقي، نُقيِم السياسي بمواقفه الوطنية حصرا). أقول حينما نقرأ ذلك التحدي، وهو يقول لأعضاء المجلس أتحدي أيا منكم أن يدخل باب هذا المجلس دون موافقتنا ، وذلك حين يعارضونه باتخاذ بعض القرارات، كنا نردد قول شاعر آخر، ربما الرصافي:
كلابٌ للأجانب ِ هُمْ ولكنْ
علي أبناء ِ جلدتهمْ أسود ُ

غصت غرفتي المتواضعة التي كانت تقع في الحياللاتيني في باريس (الشاتلية)، عند قيام ثورة1952الوطنية في مصر،بعدد من زملائي الطلبة العرب وبعض الفرنسيين، المدعوين للاحتفال بهذه المناسبة الوطنية ، حيث هللنا لهذا الانتصار العظيم، ومما قلت لهم في كلمتي ما معناه هذا قَطْرٌ لأول الغيث الذي سينهمر في العراق وغيرها من البلدان العربية، بجهود شعوبها المستعبدة والمظلومة . وفعلا تفجرت ثورة العراق بعد ست سنوات فقط، بعدما عدت الي العراق. واذ طِرْتُ فرحا بها، في البداية، حزنتُ وتشاءمتُ، بل غضبتُ بشدة، لهمجية الجماهير، التي تجلت في القتل والتمثيل والسحل في الشوارع، لجثث رموز الحكم البائد، وخاصة الوصي علي عرش العراق عبد الاله وصديق الانكليز نوري السعيد وولده صباح. وكنت أتمني أن تحرص قيادة الثورة علي حياتهم، وتقدمهم لمحاكمة عادلة، لا كما فعلت ببعض الوزراء السابقين، فقدمتهم الي ما يسمي بـ محكمة الثورة ، أو محكمة المهداوي (المهزلة)، السيئة الصيت، فأضرت بسمعتها وبسمعة القضاء والقانون وحقوق الانسان.
المهم أننا بعد أن تحررنا من الاستعمار فشلنا تماما في ارساء المؤسسات الوطنية الحديثة لتحقيق الديمقراطية، ليس في العراق فقط بل في جميع البلدان العربية التي اندلعت فيها الثورات. بل لم تتمكن هذه البلدان من تحقيق تقدمها المنشود. فضلا عن أنها فشلت مرة أخري في مواجهة اسرائيل في حرب الـ67.
لماذا؟ هل السبب هو الآخر الذي كلما يُطرد من الباب يعود ليدخل من الشباك، كما يقول البعض؟ ربما كان هذا صحيحا، ولكن السؤال الأهم: لماذا نترك شبابيكنا مشرعة ليدخل منها كل عابر سبيل؟
ولماذا بعد أن تخلصنا من الاستعمار الخارجي وقعنا في براثن الاستبداد الداخلي؟
يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ما الفرق علي أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر؟ وما مثلها الا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا؟ .
فالمستبد مهما كان عادلا سيظلم، ومهما كان عاقلا سيخطئ!! وهذا ما حدث فعلا خلال الفترة التي أعقبت الاستقلال. أما اليوم فان العراق يتعرض لخطر من نوع جديد.
ان ما يحدث الآن في هذا البلد المبتلي، مأساة أعدها له الآخر، لتقسيمه وتدميره. ولئن فاتت هذه المؤامرة علي كثير من العراقيين، فإنهم تردوا في هاويتها من حيث لا يدرون، علي الأرجح. فراحوا يتقاتلون بضراوة فيما بينهم. في وقت هم أحوج ما يكونون فيه، الي التضامن والتعاون لطرد المحتل وبناء البلد. فهذا الشرخ المذهبي الخطير، الذي يعود تاريخه الي أربعة عشر قرنا، لعبت علي ورقته جهات أجنبية معروفة تريد تقسيم العراق كمخطط محتمل لايجاد حل نسبي للأزمة وخروج أمريكا من مستنقع العراق بشيء من ماء الوجه، من جهة، وتطويع دويلات العراق للتطبيع مع اسرائيل، من جهة أخري.
يقول وجاي باخور الباحث في مركز هرتسليا وهو أشهر مراكز البحث الاسرائيلية، انه في حال لم يسفر الاحتلال الأمريكي للعراق، عن تقسيم هذا البلد، فانه يمكن اعتبار الحرب الأمريكية عليه فاشلة من أساسها ولم تحقق أهدافها.
ومشروع تقسيم البلدان العربية ولا سيما العراق، ليس جديدا فقد طرح في عدة مناسبات سابقة، تحقيقا لزيادة السيطرة علي دول صغيرة وضعيفة ومتناحرة، لقطع أي طريق محتمل لفكرة تحقيق الوحدة العربية التي تؤرق اسرائيل والدول الامبريالية. فبعد أن تخلت دول المحور عن وعودها للعرب في تأسيس وحدتهم المنشودة، بعد أن ساعدوها في القتال ضد العثمانيين، وفي أعقاب تقسيم البلاد العربية، بين بريطانيا وفرنسا، في معاهدة سايكس ـ بيكو السرية؛ تكررت الأفكار والمحاولات لمضاعفة التفكيك. فمنذ عام 1983، مثلا، اقترح المستشرق برنارد لويس، المعروف بمواقفه المعادية للعرب، تقسيم العراق الي ثلاث دويلات: دولة شيعية في الجنوب ودولة سنية في الوسط ودولة كردية في الشمال العراقي والشمال الشرقي من ايران وغرب سورية وجنوب تركيا... كما اقترح تقسيمات أخري في مصر وسورية والسعودية. وبعد الحرب الأخيرة علي العراق، أشار الي أن العراق دولة مصطنعة، وان احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، أي تفكيكه الي عدة دويلات بحسب الطبيعة السكانية، وانتماءاتها الدينية والعرقية.
وذكر المؤرح الاسرائيلي بيني موريس في لقاء مع احدي المحطات الأمريكية قبيل الحرب علي العراق قائلا: ان العراق دولة مصطنعة رسمها الانكليز وخلطوا فيها عشوائيا بين شعوب و طوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها.
وأشار جون يو، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا بيركلي والباحث في منظمة American Enterprise Institute اليمينية المتطرفة، الي اقتراح نشره في صحيفة لوس أنجليس تايمز ، يقضي بتقسيم العراق الي ثلاث مناطق/دويلات.
ونقلت محطة الجزيرة ، عن مصادر ألمانية أن الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية عاموس مالكا قد قال ان غياب العراق عن خارطة المنطقة بمساحته الحالية ووحدة أقاليمه سيكون أحد العوامل المهمة في تقليص المخاطر الاستراتيجية علي اسرائيل، مشيرا الي حقيقة مشاركة العراق في جميع الحروب التي خاضتها الدول العربية ضد اسرائيل، ومضيفا أن العالم العربي بدون العراق الموحد هو أفضل لاسرائيل من العالم العربي بوجود العراق الموحد.
وقال الجنرال داني روتشيلد، الذي تولي في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية انه يجب علي اسرائيل أن تحاول تطوير علاقات مع الكانتونات التي تنشأ في العراق الجديد، مشيرا الي علاقات تاريخية جمعت بين اسرائيل وقادة الأكراد في شمال العراق.
وحين قامت قوات التحالف باجتياح العراق، يبدو أن المحتل عرف نقطة الضعف المختفية والموروثة منذ 14 قرنا فلعب عليها تحقيقا لأهدافه البعيدة، في فرق تسد ، من جهة، وخدمة لمصالح اسرائيل في المنطقة، من جهة أخري. ونحن نعلم أن من جملة الأسباب الرئيسية للحرب علي العراق كانت تتعلق بالمصالح الاسرائيلية، لأن العراق كان يشكل أهم دولة عربية يمكن أن تهددها. وقد ظهرت معالم تلك الدلائل منذ اختيار أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، الذي تكون بناء علي التشكيلة العرقية والطائفية المتنوعة للعراق، وذلك علي الوجه التالي: 5 أكراد، واحد كلدو آشوري، واحد تركماني، 5 سنة، 13 شيعة، وقد أدي هذا التقسيم ، الذي تكرس فيما بعد، الي احياء النعرات الطائفية التي كانت نائمة في العقل المجتمعي ، مما أسفر أخيرا عن قيام الحرب الطائفية المستعرة حاليا. ويقال، ان جهات أجنبية، عكفت علي تأجيج هذه النعرات، بالقيام بأعمال ارهابية علي المراكز الدينية الشيعية، خاصة في مسجد سامراء الكبير.
ومع توفر جميع هذه الأدلة نراقب، بكل أسف، أن بعض العراقيين ، يساعدون اسرائيل في تحقيق أهدافها البعيدة في المنطقة، من خلال اذكاء هذا القتال العنيف الجاري هناك. (لا نريد أن نتطرق الآن الي تداعيات هذا الصراع الذي قد يشعل المنطقة برمتها، من خلال تدخل دول الجوار، ليس فقط علي الأمة العربية، بل علي مصالح أمريكا نفسها، والدول الغربية عامة).
وهنا لا بد أن نطرح هذا السؤال الخطير:
تُري لماذا في كل مرة يتاح لنا فيها الاستقلال والحرية، نقع في أخطاء تؤدي الي كوارث، تجعلنا نترحم علي العهود السابقة، وتسقطنا في هاوية لا يبدو أن لها قرارا؟ هل يعني ذلك أننا ما زلنا قاصرين ونحتاج الي وصاية الآخر ؟
والوصاية علي شؤون البلدان العربية ليست غريبة عنها، بل متواصلة تاريخيا منذ تأسيس نظم الحماية ثم الانتداب ، (العراق والأردن وسورية ولبنان، بموجب ميثاق عصبة الأمم) ، ثم نظام الوصاية ، بموجب ميثاق الأمم المتحدة.
وليس من الضروري أن تكون الوصاية صريحة بل أصبحت ضمنية. لننظر الي لبنان اليوم الذي طلب لجنة تحقيق دولية، وهو الآن بصدد طلب محكمة دولية. لنقارن بينه وبين اسرائيل التي ترفض باصرار أي تدخل خارجي دولي في شؤونها أو بالأحري في انتهاكاتها، بل تعتبر أية مشاركة دولية في سياساتها العدوانية أو اجراءاتها مسا بسيادتها.
والوصاية ليست بالضرورة مباشرة كما أسلفنا، بل يمكن أن تتخذ أشكالا أخري. فنحن نعتبر هذه الوصاية قائمة الآن علي بلدان مثل مصر والأردن، اللذين يحصلان علي مساعدات من أمريكا، وما يعقبها من شروط وقيود. أما بقية معظم بلدان الخليج فانها مدينة لأمريكا بحمايتها. فلا يمكن أن تتخذ قرارات مخالفة لآراء الوصي المحترم والحامي المخلص .
نعم، قد ينجح العراق في تحطيم أسطورة أكبر وأقوي دولة في العالم، ولكنه قد يغرق بعدها في حمامات دم قد تجعله يطلب مساعدة دولية من الأمم المتحدة (وصاية)، ربما يفشل في الحصول عليها، فيتورط في حرب أهلية قد تتواصل عشرات السنين. فمتي يستيقظ العراقيون ويثوبون الي رشدهم، ويحلون معضلاتهم دون وصاية الآخر ؟


محام وكاتب من العراق يقيم في نيويورك