الخميس: 2006.03.023


د. وحيد عبدالمجيد


مفهوم الأمن الوطني في معظم الدول العربية مرتبك ومربك في آن معاً، وكذلك تطبيقاته. اختلط هذا المفهوم لفترة طويلة بشعار غامض هو quot;الأمن القومي العربيquot;، كثرت الكتابات في هذا الشعار دون أن تجليه أو تقربه إلى الأذهان. تعامل معه كثير من الكتَّاب والباحثين باعتباره مفهوماً استراتيجياً دون توضيح كيف يمكن أن تتماثل التهديدات التي تتعرض لها أكثر من 20 دولة لكل منها ظروفها ومشكلاتها وتفاعلاتها الإقليمية والدولية. وكيف يمكن أن تتشابه العقائد العسكرية في هذه الدول كلها؟ فأقصى ما يمكن الحديث عنه هو تصور عام، بل شديد العمومية، لأمن جماعي عربي. وهذا يدخل في إطار مفهوم الأمن الإقليمي الذي يركز على إيجاد ترتيبات متفق عليها للأمن في منطقة ما، مثل حل النزاعات بوسائل سلمية أو الحد من التسلح وما إلى ذلك، أكثر مما يتعلق بالعوامل التي تحدد مصادر التهديد للأمن وكيفية التعامل معها.
فهذه العوامل تختلف بالضرورة من دولة إلى أخرى حتى إذا كانتا حليفتين يجمعهما تحالف عسكري، فهذا التحالف في معظم صوره، يهدف إلى مواجهة تهديد محدد لأمن دولتين أو أكثر. ولكن تظل هناك تهديدات أخرى، في الغالب الأعم، للدولتين أو الدول المتحالفة لا يغطيها هذا التحالف.
ولذلك لا يكفي وجود تهديد إسرائيلي للقول إن هناك أمناً قومياً يجمع الدول العربية كلها، فهذا التهديد حقيقي، ولكنه متفاوت، أي ليس على المستوى نفسه، بالنسبة إلى هذه الدول. كما أن هناك مصادر تهديد أخرى لكل منها غير إسرائيل. وبعض هذه المصادر عربي، بمعنى أن هناك دولاً عربية مثلت، وما زالت، مصادر تهديد لدول أخرى شقيقة.
ولهذا كله لم يترتب على افتتان كثير من الكتاب والباحثين والمحللين بشعار الأمن القومي العربي، إلا إضعاف دراسات الأمن الوطني لكل دولة عربية. وينطبق ذلك على العراق الذي توجد علامة استفهام كبيرة بشأن مستقبل أمنه الوطني، وبصفة خاصة الطريقة التي تدرك بها الطبقة السياسية فيه مصادر التهديد لهذا الأمن الآن ومستقبلاً.
فثمة قسم رئيس في هذه النخبة يرتبط مع إيران بصلات ووشائج ومصالح تبلغ من القوة مبلغاً يجعل التحالف معها خياراً أول. هؤلاء الذين يمثلون قوى شيعية متنوعة تتمتع بنفوذ قوي وتسعى إلى تكريسه، يعتبرون المرحلة التي كانت فيها إيران مصدر التهديد الأول لأمن العراق فترة سوداء ينبغي محوها من تاريخ بلدهم.
صحيح أن العراق الجديد ما زال في مرحلة تشكل يقطع خطوة إلى الأمام ويتراجع خطوتين إلى الوراء، ومع ذلك فالاتجاه العام لهذا التشكل حتى الآن ينبئ بهيمنة قوى أصولية شيعية ذات صلة وثيقة بإيران على النظام السياسي الجديد. فهذه القوى هي الأكثر قدرة على التلاحم لأن هناك مرجعية دينية يصعب على أي منها المجاهرة بالخروج على مواقفها. ولا يتوفر شيء من ذلك للقوى الأخرى السُنَّية العربية والكردية والليبرالية واليسارية التي تستطيع -نظرياً- مواجهة هيمنة الأصولية الشيعية إذا تحالفت. ولكن هذا التحالف بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً، ففي ظل ضعف التطور السياسي والاجتماعي من الصعب أن يتحالف طرفان، فما بالنا إذا كان التحالف بين خمسة أطراف رئيسية (الحزبان الكرديان الكبيران والقائمتان السُّنيتان الأساسيتان والقائمة الوطنية العراقية)، وعدة قوائم قزمية تعبر عن الأقليات الصغيرة. وفي المقابل يتمتع التحالف الشيعي (الائتلاف العراقي الموحد) بتماسك المرجعية الدينية التي يصعب على أي طرف فيه أن يخرج على كلمتها.
فكيف يكون إطار الأمن الوطني في عراق يتمتع فيه هذا التحالف الشيعي بمركز الثقل، ولكنه لا يحتكر السلطة أو ينفرد بها؟ وكيف يكون تأثير ذلك على معادلات الأمن الإقليمي؟
هذا السؤال يثير بدوره عدة أسئلة فرعية أهمها ثلاثة، وأولها: هل تتحول إيران من مصدر تهديد للأمن الوطني العراقي على مدى عقود، إلى الحليف الإقليمي الرئيسي للعراق الجديد؟ وهذا السؤال يثير بالضرورة قضية النفوذ الإيراني الذي تمدد في داخل العراق وتغلغل في جيشه الجديد وأجهزته الأمنية خلال الفترة الماضية منذ إسقاط نظام صدام حسين. فهل يتواصل هذا النفوذ ويتكرس أم يتراجع؟
والسؤال الثاني هو: إذا تحولت إيران من مصدر تهديد للأمن الوطني إلى الحليف الرئيسي، فهل تصبح دولة أو دول عربية أو تركيا هي مصدر التهديد، أخذاً في الاعتبار أن ظروف العراق الجديد تحول دون إدراج إسرائيل ضمن مصادر التهديد الرئيسية لأمنه الوطني؟ وما لا يمكن إغفاله هنا أن العلاقة بين القوى الشيعية الصاعدة في العراق الجديد والدول العربية في الغالب الآن ما بين فاترة ومتوترة. ولذلك فالسؤال هنا هو: هل نشهد تحولاً في مدركات، وبعد ذلك في سياسات، الأمن الوطني العراقي باتجاه إحلال دول عربية كمصدر رئيس للتهديد إذا كرست القوى الشيعية الصاعدة هيمنتها حتى بشكل نسبي؟
وقد لا يكون صعباً للغاية بناء نظرية الأمن الوطني في العراق الجديد على هذا الأساس، لأن هذه ليست المرة الأولى التي تنظر فيها الطبقة السياسية العراقية، أو قسم رئيس فيها، إلى دول عربية باعتبارها مصدر التهديد الرئيسي. فعلى سبيل المثال كان مصدر التهديد الرئيسي في مدركات نخبة النظام الهاشمي العراقي وسياساته هو الدور المصري- السعودي الذي أعاق مشروع الهلال الخصيب الذي استهدف توسيع النفوذ الهاشمي في قلب العالم العربي. ولكن بغداد لم تعتمد على طهران حينئذ في مواجهة مصر والسعودية، وإنما اتجهت إلى الغرب، فكان حلف بغداد المشهور. وبالرغم من أن نظام عبدالكريم قاسم، الذي أطاح الهاشميين عام 1958، أحدث تغييراً كبيراً في السياسة العراقية، فإنه ظل يعتبر مصر الناصرية مصدر التهديد الرئيسي له. ومرة أخرى لم تعتمد بغداد على طهران، وإنما على الاتحاد السوفييتي في تلك المرحلة.
ولذلك يبدو ميل قسم رئيسي في الطبقة السياسية العراقية إلى إيران متغيراً كبيراً، سيغير الكثير في معادلات الأمن الإقليمي.
ويقودنا ذلك إلى السؤال الثالث، فهذا السيناريو يفتح الباب إذا تبين وجود أساس قوي له على صعيد الأمن الوطني العراقي لسؤال كبير، عما إذا كان ممكنناً لتحولات هذا الأمن أن تعيد صوغ وترتيب التحالفات والصراعات الإقليمية ليصبح الصراع المذهبي الشيعي- السُّني أحد محددات هذه التحالفات والصراعات؟ ولا يعني ذلك أن فكرة quot;الهلال الشيعيquot; هي فكرة صحيحة بالضرورة. فمن ناحية أولى نجد أن مراكز الثقل الشيعية في المنطقة من إيران وحتى لبنان تبدو أقرب إلى خط مستقيم منه إلى هلال. ومن الناحية الثانية، والأهم، أن ما يجمع هذه المراكز لا يكفي لبناء تحالف متماسك إلا إذا انقلبت القوى الشيعية العراقية على الولايات المتحدة جذرياً، وهذه فرضية ضعيفة على الأقل في المدى المتوسط، وإن تبدو أقوى في الأمد الأبعد.
ولذلك فإن ما يجمع مراكز الثقل الشيعية قد يوفر فرصة لعلاقة مساندة متبادلة ذات طابع مرن أكثر مما يتيح إمكانية التحالف. ولذلك يجوز التساؤل أيضاً عما إذا كان هذا النوع من العلاقة يكفي لتغذية محور جديد رئيسي للصراع الإقليمي على أساس مذهبي؟
ووجود مبرر قوي لمثل هذا السؤال يكفي للدلالة على أهمية وخطورة تحولات الأمن الوطني العراقي في المرحلة المقبلة، وتأثيراته على معادلات الأمن الإقليمي.