د. مصطفى الفقي

ظل الشعار الشهير، الذي رفعته جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية وفي غيرها من المناسبات الجماهيرية، هاجساً يؤرق ضمائر كثير من المسلمين وهم يرون دينهم المقدس شعاراً مرفوعاً يدركون معه خطورة استخدامه لفصيل سياسي معين من دون غيره، وكأن ذلك الفصيل يستأثر وحده بالإيمان المطلق، بذلك الدين الحنيف ويحتكر من دون غيره شعاراً يضم زخماً روحياً يستهوي المتدينين ويثير لدى الناس نوازع تؤكد ذلك الخلط الواضح بين الدين والسياسة، ويكرس المحاولة المتعمدة لتطويع المقدسات لخدمة السياسات.

وإذا كانت ثورة 1919 في مصر قد رفعت شعار ldquo;الدين لله والوطن للجميعrdquo; فإنها كانت تشير من طرف خفي إلى مفهوم المواطنة الذي نراه بحق ذا دلالات إنسانية وأخلاقية وسياسية، بل ودينية، فكلمة ldquo;المواطنةrdquo; مستمدة من كلمة وطن بكل ما تحمله من معاني الارتباط بالأرض والانتماء للشعب، والمشاركة في سلطة الحكم وفقاً للتعريف التقليدي لكلمة ldquo;الدولةrdquo; في القانون الدولي، ldquo;فالمواطنةrdquo; بهذا المعنى هي منظومة من القيم والمشاعر والانتماءات تكرس معنى المساواة وتحترم مفهوم التعددية وتسقط الفوارق المتصلة بالدين أو الجنس أو الأصل بين البشر بغير استثناء.

إن ldquo;المواطنةrdquo; تشمل المسلم والمسيحي وغيرهما من أصحاب العقائد الروحية، كما تشمل الرجل والمرأة في دلالة عصرية على نضج المجتمعات وبلوغها سن الرشد، وهي تشير أيضاً إلى الحقوق المتكافئة للأغنياء والفقراء معاً، بما يحمله ذلك من إشارات قانونية وأخلاقية تجاه قضية العدالة الاجتماعية، التي لن نتوقف عن الإشارة إليها ولن نمل من التأكيد على ضرورة رسوخها.

ldquo;فالمواطنةrdquo; بهذا المعنى تضم جوانب سياسية واقتصادية وثقافية ومعناها أوسع وأشمل من أن تختزل في واحد من أبعادها دون غيره، وإن كنا نظن أن السياق الذي ظهرت فيه والظروف التي أبرزتها تبدو مرتبطة بالبعد الديني قبل غيره، فأنا ممن يعتقدون بأن شهادة ميلاد ldquo;المواطنةrdquo; في مصر لم تصدر عام 2006 أو 2007 ولكنها صدرت عامي 1918 و1919 عندما تحركت جماهير الشعب في اندماج كامل وروح فريدة تضرب بشدة الشعار الاستعماري العتيق ldquo;فرق تسدrdquo;، وتؤكد التحامها وتثبت وجودها وترفع الوحدة الوطنية شعاراً لا يعلوه سواه، ولنا في هذا المقام عدد من الملاحظات نوجزها في ما يلي:

أولاً- إن مبدأ ldquo;المواطنةrdquo; الذي سوف يتصدر المادة الأولى في التعديل الدستوري المنشود ليس فكرة محلية أو شعاراً داخلياً، ولكن المواطنة إطار فلسفي لمفهوم مؤسسي قابل للتطبيق في كل الأمم وكافة الشعوب، وهي لا ترتبط بالتعبير القانوني المتصل ldquo;بالجنسيةrdquo; وحده ولكنها تتجاوز ذلك إلى معنى أوسع وأشمل، بحيث يضم مظلة الانتماء الأكبر، لذلك فإن الحديث عن المواطنة العربية لا يتعارض مع مبدأ المواطنة المصرية، فالكلمة تتجه إلى جذورها الأولى قومية كانت أو وطنية، وتشير إلى الارتباط بالأرض إقليمية هي أو محلية.

ثانياً- إن مبدأ ldquo;المواطنةrdquo; لا يتعارض مع العقائد الدينية أو المشاعر الروحية ولكنه لا يوظفها في خدمة غايات سياسية معينة، ولا يستثمرها طلباً لاستثارة عواطف المؤمنين على اختلاف اتجاهاتهم. وبهذا المعنى فإن المواطنة ليست مرادفاً ldquo;للعلمانيةrdquo; ولكنها نقيض للدولة الدينية وتأكيد للشخصية ldquo;المدنيةrdquo; بمعناها العصري ومفهومها الحديث.

ثالثاً- إن ldquo;المواطنةrdquo; تحمي التعددية ولا تفتئت عليها أو تنال منها، إنها تحمل دلالات ذات طابع يؤمن بحق الاختلاف وميزة التنوع ويدرك أن المجتمعات الأحادية التكوين أضعف بكثير من تلك التي تضم كافة الرؤى ومختلف المشارب وتتحمل تنوع الاتجاهات، ldquo;فالمواطنةrdquo; بهذا المعنى تنتقل من مرحلة (تحالف قوى الشعب العاملة) إلى مرحلة (اندماج قوى الوطن الفاعلة) مع إسقاط كل أسباب الفرقة وعوامل الانقسام والاعتراف بالتعددية مهما كان مصدرها أو تباينت درجاتها.

رابعاً- إننا عندما نقول إن ldquo;المواطنة هي الحلrdquo; فإننا لا نجري قياساً على شعار ldquo;الإسلام هو الحلrdquo;، ولكننا نعفي الوطن من مخاطر الفرقة وعوامل الانقسام، فمصر لكل أبنائها، وعندما قال ldquo;سعد زغلولrdquo; إن شعار ثورته عام 1919 هو (مصر للمصريين) والذي صدر في غماره دستور 1923 بما يحمله من رؤى متقدمة عن عصره سابقة لزمانه مع إيحاءات ليبرالية واضحة، ونحن نعود الآن إلى ذلك المخزون الوطني لنجعل من ldquo;المواطنةrdquo; شعاراً يرتفع فوق الطوائف الدينية والأصول العرقية والطبقات الاجتماعية ويحتوي الجميع وكأنما ldquo;الكل في واحدrdquo;.

خامساً- إن الإصلاح الدستوري الذي تشهده البلاد ويجد صداه عربياً ودولياً إنما يجسد مرحلة فاصلة في مفهوم الدولة المدنية العصرية التي تحترم الدين وترتفع به عن مهاترات الحياة السياسية اليومية، فلقد ثبت لنا أن كل محاولة لدمج الدين في السياسة أو إقحام السياسة في الدين تكون غالباً على حساب العقيدة الدينية ومكانتها السامية، فالدين علاقة إيمانية بين العبد وخالقه ولا يجب الهبوط بها إلى ساحة الجدل السياسي والمكابرة الحزبية مهما كانت الأسباب والدوافع، وذلك لا يلغي بالطبع اعترافنا بثراء الشريعة الإسلامية ولا يتعارض مع التمسك بمبادئها مصدراً رئيسياً للتشريع.

..هذا طواف سريع بموضوع حيوي لابد أن نشير إليه دائماً وأن نتحدث عنه في وضوح، لأنه يقدم شهادة التأمين الحقيقية للمجتمع العصري السليم الذي يحترم المقدسات ويرتفع بالأديان ويسقط كافة الفوارق بين الملل والنحل والمعتقدات، إننا نرى أن شعار ldquo;المواطنة هي الحلrdquo; يجب أن يرتفع في سماء الوطن يردده المسلمون والمسيحيون على السواء، والرجال والنساء بلا تفرقة والفقراء، والأغنياء معاً، لأنه يحدد مفهوم الانتماء ويضمن للوطن معنى الولاء.