الصادق المهدي
كنت وما زلت أكن حبا دافئا لبلاد شنقيط وأهلها وأجد فيهم أصالة إسلامية وعربية أصيلة تليق بأسلافهم المرابطين، وأجد في تكوينهم السكاني العربي الأفريقي صدى لبلادي، وفي مظهرهم وسلوكهم الاجتماعي تماثلا مع أهل السودان.
وكنت مشفقا عليهم من الفيروس الانقلابي الذي بالحماسة الهوجاء والأيديولوجية الواهمة، قفز فوق الواقع السياسي والاجتماعي في بلدان كثيرة وكسر رقبته ورقبتها. ولكن الأخ علي محمد فال وزملاؤه فاجأونا بسلوك مخالف لعشيرة الانقلابيين، مماثل لما يفعل رجال الدولة من بناة الاوطان، لأنهم وعدوا وأوفوا ونقلوا بلادهم من حكم الإكراه والطوارئ إلى الشرعية الديمقراطية.
الانتخابات كما عرفتها النظم الحديثة تصلح أدوات تحرير وأدوات تزوير.
الطغيان نحلة قديمة عرفتها كل الحضارات وغذتها بتجاربها: فرعونية، وقيصرية وكسروية وهلم جرا.
لكن الطغيان الحديث صناعة أوربية طور وجودها (ستالين) في اليسار و(هتلر وموسوليني) في اليمين. وفي كل الحالات استخدم الطغيان الحديث الانتخابات لأغراضه وطلاء أنيابه وأظافره بدهان ديمقراطي زائف.
ثم انتقل مركز الطغيان الحديث إلى أمريكا اللاتينية حيث أتقن الانقلابيون أساليبه وصدروها عبر البيرونية إلى العالم العربي فانتشرت هذه الشجرة السامة في شكل الاتحاد الاشتراكي وأمثاله من أدوات التحكم الأحادي.
العالم العربي اليوم ثقب أسود في جدار الحكم الراشد، إذ أن أغلبية المسلمين يعيشون في ظل نظم ديمقراطية. كذلك أغلبية الأفارقة جنوب الصحراء.
ومثلما شعرت بتحقير شديد عندما أعلن لنا في مناسبات مختلفة داخل بلدان مختلفة في عالمنا العربي وداخل السودان أحيانا، أن الرئيس فاز بنسبة تقارب الـ 100%، شعرت بتكريم وأنا أتابع ما يجري في موريتانيا. تكريم أشعر به كلما أجد شعبا شقيقا في الأفريقية أو الإسلام أو العروبة قد تحرر.
تتلخص القدوة الموريتانية في سبع نقاط تهدم جدار الاستبداد تضع الآخرين أمام تحد: فبضدها تتبين الأشياء.
أولا: العمل على المصالحة واحتواء عداوات الأمس.
ثانيا: كفالة الحريات الأساسية لا سيما حرية التنظيم للكافة.
ثالثا: الدخول في حوار شامل بقصد الاتفاق على أساس للتراضي الوطني.
رابعا: الاتفاق على إصلاحات دستورية جعلت الدستور قاعدة إجماع وطني.
خامسا: تكوين لجنة وطنية مستقلة للانتخابات اختير أعضاؤها بالتشاور مع الفاعلين السياسيين وإعطاؤها صلاحيات واسعة لإدارة الانتخابات.
سادسا: التزام السلطة الانتقالية بالحياد التام بين القوى السياسية المتنافسة.
سابعا: اعتماد الشفافية التامة من حيث توفير فرص المراقبة والمتابعة الداخلية والخارجية.
هذا النهج الراشد نقل جماعة انقلابية من عشيرة دمرت بفعالها أوطانها إلى رجال دولة من بناة الأوطان.
وبقدر استبشار الشعوب الشقيقة لموريتانيا بما حققت فإن الشموليين وسدنة الشمولية سوف يحاولون تجاهل القدوة الموريتانية أو يسفهونها باعتبارها هامشية لا تستحق الانتباه.
إنك لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله. سوف يكون للقدوة الموريتانية أثر كبير في جدار الاستبداد وسوف تحفل بها الشعوب كثيرا لا سيما في مناخ الظلمات التي تحيط المنطقة.
السودان من البلدان التي سوف تتأمل القدوة الموريتانية كثيرا، لأن شعبه خاض تجارب مماثلة في الماضي القريب.
عندما دخلت البلاد في إضراب عام في أكتوبر 1964م حل الفريق إبراهيم عبود الأجهزة الزخرفية التي كان يمارس عبرها حكمه وقرر الدخول في تفاوض مع القوى السياسية والمدنية، فأدى ذلك إلى انتقال سلمي للسلطة وقيام حكم انتقالي أجرى انتخابات عامة حرة.
وعندما تكرر الإضراب السياسي في أبريل 1985م قررت القوات المسلحة عزل الطاغية ودخلت مع القوى السياسية والمدنية في تفاوض أدى إلى تكوين حكم عسكري/مدني انتقالي أجرى انتخابات عامة حرة وتحول ديمقراطي حقيقي.
السودان اليوم في محنة كبرى لأن السلطة الانقلابية بعد إدراك فشل مشروعها الحضاري دخلت في نظام أسسه اتفاق نيفاشا ( يناير 2005) ودستوره وما تلاه من اتفاقيات.
اتفاقية نيفاشا عالجت بعض أهم أسباب النزاع ووضعت أساسا متفاوضا عليه لتوزيع السلطة والثروة والوحدة الطوعية. هذه المسائل طابقت ما اجمع عليه السودانيون في أمرها ولكن الاتفاقية بدل أن تفتح العملية السياسية رهنتها لتمكين في ظاهره ثنائي وفي حقيقته أحادي.
هذا الاحتباس السياسي عرقل بناء الثقة بين طرفي الاتفاقية، ووضع سقوفا حالت دون استيعاب مطالب مسلحين آخرين، ووضعت كافة القوى السياسية والمدنية المغيبة عن التفاوض في خانة الإقصاء السياسي.
لذلك جاء قانون تسجيل الأحزاب مناقضا لنصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومناقضا لنصوص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ومناقضا لتجربة السودان الديمقراطية ومحبطا لآمال السودانيين الذين التفت قواهم السياسية ضده.
الشعب السوداني سوف يتأمل القدوة الموريتانية الحضارية الرائعة بإعجاب يزيد من تصميمه على الاستفادة من بنودها السبعة التي تشبه معالم بارزة في تجاربه الحديثة.
أما أهلنا في موريتانيا فنقول لهم بخ..بخ.. أشعلوا المصابيح وواصلوا المشوار ومن استن سنة حسنة فله أجره وأجر من عمل بها.
التعليقات