سعد الدين إبراهيم

تدخل الانتخابات الأولية، لتحديد مرشحي الحزبين الكبيرين المتنافسين، علي الرئاسة الأمريكية مرحلتها النهائية في شهر مارس. وهذه، كما ذكرنا في مقال سابق، هي تصفيات داخلية في كل حزب، تمهيداً للمنافسة النهائية، في شهر نوفمبر، والذي يتم في الأسبوع الأول منه، انتخاب رئيس أمريكي جديد، وكل أعضاء مجلس النواب، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، وكل حكّام الولايات.

وتتم الانتخابات الأولية في عدد مختار من الولايات خلال الشهور الخمسة الأولي من العام، ثم يعقد كل حزب مؤتمره الدوري العام، الذي يعلن فيه اسم مرشحه للرئاسة، ونائبه، والبرنامج الانتخابي للحزب، خلال الشهور الثلاثة التالية. ثم تدور الحملة الانتخابية إلي مساء الاثنين الأول من نوفمبر، وأخيراً تعقد الانتخابات يوم الثلاثاء الأول من نوفمبر. ويعرف المواطنون والعالم اسم الفائز، صباح الأربعاء، بعد فرز وعد الأصوات. ويباشر الرئيس المنتخب مهام منصبه، وينتقل وأسرته للعيش في البيت الأبيض، ويحلف اليمين ويخاطب الكونجرس والأمة والعالم، يوم الثلاثاء الثالث من يناير، ويباشر واجباته الرئاسية للسنوات الأربع التالية.

إن هذا التسلسل، بهذه التواريخ، وطبقاً لقواعد مكتوبة، ومتعارف عليها، هي ما يسمي بالنظام (system) ويتعلمه كل مواطن أمريكي، حيث هو من أجله، وهو شريك فيه. وبدأ العالم كله يتعرف علي هذا النظام، مع صعود أمريكا، خلال القرن العشرين إلي الدولة الأقوي والأعظم في العالم. والأمريكيون فخورن بنظامهم المفتوح و الشفاف ، والذي يعطي كل مواطن الحق والفرصة للتنافس علي أي موقع فيه، طبقاً لقواعد معلومة مسبقاً للجميع.

وتكتسب الانتخابات الأمريكية أهمية قصوي هذا العام (2008)، نتيجة دخول امرأة، وهي السيناتور هيلاري كلينتون، وأمريكي أفريقي، وهو باراك حسين أوباما، الانتخابات الرئاسية لأول مرة في التاريخ الأمريكي (الذي بدأ مع الاستقلال عام 1776). وهذان الوجهان الجديدان علي هذا السباق الرئاسي هما من الحزب الديمقراطي المعارض. أما الحزب الجمهوري الحاكم، حزب جورج بوش الذي تنتهي ولايته يوم 20 يناير 2009، فإن المنافسة علي اسم مرشحه قد انحصرت إلي تاريخه في السيناتور جون مكين ، وحاكم ولاية أركنساس السابق مايكل هاكوبي .

وقد تركزت الأنظار، وتسلطت الأضواء أكثر علي مرشحي الحزب الديمقراطي هيلاري وأوباما، حيث إن كلا منهما مثير، كشخص وكتاريخ، وكسابقة في المجتمع الأمريكي. ولا يقل الاهتمام خارج أمريكا عنه في الداخل وخاصة في أوروبا واليابان فأمريكا بالنسبة لهما، هي الحليفة الكبري. وهي الحامية والراعية. أما اهتمام بلدان العالم الثالث بهذا السباق، إلي جانب أهمية الدور الأمريكي في العالم، فهو لأن هناك تعاطفاً كبيراً مع أوباما، ذوي الجذور الإفريقية الإسلامية. وبسبب آرائه الأكثر انفتاحاً علي العالم، واستعداداته لعمل مصالحات تاريخية كبري بين أمريكا والعالم من فيديل كاسترو في كوبا إلي أحمدي نجاد في إيران.

وفي ساعة كتابة هذا المقال (مساء الثلاثاء 12 - 2 - 2008)، كانت نتائج الانتخابات الأولية في ثلاث ولايات حول العاصمة الأمريكية قد أعلنت، وحيث اجتاحها جميعاً باراك أوباما علي منافسته هيلاري كلينتون، بفوارق تزيد عن عشرين نقطة مئوية. وهي فوارق غير مسبوقة في المنافسة بينهما، والتي كانت إلي تاريخه لا تتجاوز 5 إلي 10 نقاط مئوية لصالحها أو لصالحه. وبهذا الكسب الأخير، أقفل أوباما الفجوة بينهما في العدد التراكمي للنقاط، ثم تجاوزها بقليل. وتظل الانتخابات الأولية في عدد آخر من الولايات الكبيرة أهمها تكساس ووسكونسون وأوهايو تعقد خلال ما تبقي من شهر فبراير ومارس. وتشير استطلاعات الرأي العام أن المنافسة ستظل محتدمة إلي أخر هذه الولايات، ثم إلي مؤتمر الحزب.

وهناك إجماع علي أن أوباما، وبصرف النظر عن النتائج النهائية للمنافسات الأولية هذا العام، هو النجم الساطع (مع الاحترام لمناورات الجيشين المصري والأمريكي التي تحمل نفس الاسم)، في سماء الحياة السياسية الأمريكية. ويقول الرئيس السابق بيل كلينتون، زوج المرشحة هيلاري كلينتون، والذي يساعد زوجته بطبيعة الحال، أن صعوبة المنافسة تكمن في أن هيلاري لا تنافس شخصاً، وإنما تنافس حركة اجتماعية ! فما هو المقصود بذلك؟

لقد ألهم باراك أوباما قطاعات كبيرة لدخول معترك الحياة السياسية، بشكل نشط. فرغم أن لكل أمريكي الحق في المشاركة، متي بلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، إلا أن كثيرين لم يكونوا يمارسون هذا الحق، وخاصة من الشباب والنساء وأبناء الأقليات. ولكن أوباما، شكلاً وموضوعاً ولغة وعمراً (44 سنة) ألهم هذه القطاعات للمشاركة لأول مرة. وهذا ما تعكسه أرقام ونسب من يشاركون في الانتخابات الأولية، والذي وصل هذا العام إلي حوالي 70 في المائة من الناخبين المسجلين في كل حزب. وهو رقم يزيد بعشرين نقطة مئوية عن الأعوام السابقة. وأصبحت المهرجانات الانتخابية لأوباما ظاهرة اجتماعية غير مسبوقة.

كذلك تفرز المنافسات الانتخابية كل مرة مصطلحات وألفاظاً جديدة. ومن تلك مصطلح القابلية للانتخاب (Electability). فقد يكون المرشح كامل الأوصاف ، كما يذهب المثل الشائع، ولكن لسبب آخر غير معلوم بالضرورة، لا يروق للناخبين. وقد برعت مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي العام في قياس هذه القابلية للانتخاب . وذلك من خلال آليات منهجية مبتكرة. منها استطلاع رأي عينات ممثلة عن رأيها في المفاضلة بين مرشحين أو أكثر، في معارك افتراضية. مثال ذكر سؤال مواطن: لو كانت الانتخابات الفعلية اليوم بين أوباما (ديمقراطي) ومكين (جمهوري)، فأيهما نختار؟ ويحدث تبديل في الأسماء، أثناء الاستطلاع مثل ماذا لو كان الاختيار بين هيلاري كلينتون وجون مكين؟، وهكذا. وفي آخر استطلاع من هذا النوع قامت به شبكة السي إن إن، جاء أوباما الأكثر قابلية للانتخاب في مواجهة أي مرشح من الحزب الجمهوري. وفي ذلك تفوّق أيضاً علي هيلاري كلينتون بست نقاط مئوية.

إن هذا الصعود الفلكي لشاب أمريكي أسود، لم يحدث منذ مارتن لوثر كنج (1968)، أو لشاب أمريكي أبيض منذ جون كيندي (1963)، ثم شقيقه روبرت كيندي (1968)، ومنذ مالكوم إكس (1970). وهؤلاء جميعاً تم اغتيالهم وهم في قمة صعودهم، وفي نفس العمر تقريباً أوائل الأربعينات. وهو ما جعل كثيرين يتوجسون أن يحدث نفس الشيء لباراك أوباما.

وفي كل من الاغتيالات الأربعة، ظل الرأي العام الأمريكي حائراً حول تفسير الظاهرة، وعما إذا كان كل اغتيال هو عمل فردي من شخص مخبول أو موتور أو مُتعصب ، أم أن وراءه جماعة أو جهاز أو طرف داخلي، أو حتي خارجي أكبر. وفي هذا الصدد هناك أمريكيون يتنافسون مع العرب في اعتناق نظرية المؤامرة .

وقيل بين ما قيل في التفسير غير التآمري لظاهرة اغتيال نجوم السياسة أن من يرتكبونها يكونون في العادة من المحبطين الناقمين علي نماذج النجاح المبهرة، والتي لا يمكن احتواء تأثيرها المتزايد، إلا بالقضاء عليها قتلاً. وهو ما ينطبق علي حالات الاغتيال الأربعة المذكورة أعلاه (جون وروبرت كيندي ومارتن لوثر كنج ومالكوم إكس). إن التوازي بين حالة باراك أوباما والمشاهير الأربعة كبير. ويُقال، أنه بين الثلاثمائة مليون أمريكي، يوجد علي الأقل مليون لا يستسيغون أن يحكم بلادهم رئيس أسود، كما لم يستسيغوا أن يحكم رئيس كاثوليكي!.

نرجو من الله ألا يحدث ذلك لباراك حسين أوباما قبل أن يكمل مشواره الواعد. آمين.