إيلاف من أصيلة: احتفت "خيمة الإبداع" المنعقدة في إطار فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي ال45، الأربعاء، بمحمد الأشعري، الكاتب والروائي والشاعر، والرئيس السابق لاتحاد كتاب المغرب ووزير الثقافة السابق، بمشاركة نخبة من الأدباء والجامعيين والأكاديميين المغاربة، استعرضوا مختلف جوانب الكتابة عند المحتفى به، وما أنتجه في مختلف أصناف التعبير الأدبي والفكري والصحفي والفني، فأجمعوا على ما يتمتع به من خصال رفيعة، وعلى قيمته ككاتب فرض حضوره في الساحة الثقافية، المغربية والعربية.
أديب لامع
قال محمد بن عيسى، أمين عام "مؤسسة منتدى أصيلة"، في افتتاح هذه الندوة التي توزعتها أربع جلسات، إن الأشعري "أديب لامع"، و"كاتب صحفي مقتدر"، و"شخصية فذة لها ما يميزها، وتؤسس لخصوصيتها، جمعت من كل فن طرفا"، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق بشاعر وروائي وقاص، وكاتب صحفي "انفرد بأسلوبه من خلال عموده الشهير (عين العقل)، كما كان عميقا في مقالاته وكتاباته الفكرية والسياسية، فضلا عن عشقه للفنون البصرية ومختلف التعبيرات الجمالية".
وشدد بن عيسى على أن السمات والصفات في شخصية الأشعري ترسم ملامح صورة مثقف ألمعي، يؤسس من داخل الكتابة رؤاه ومواقفه.
صلاح بوسريف وليانة بدر
الأشعري الإنسان
أشار بن عيسى إلى تكريم الأشعري يحمل بعدا ثقافياوأخلاقيا، من منطلق أن أصيلة تكرم في شخص المحتفى به قيم الإبداع ومبادئ الالتزام الفكري.
وعاد بن عيسى، في آخر جلسات الندوة، ليتحدث عن الجوانب الإنسانية التي تميز الأشعري، انطلاقا من العلاقة التي جمعت بينهما لنحو أربعة عقود، فوصفه بـ"المخاطب العاقل، الملتزم، الصريح والمهذب"، والذي "ليس فيه لؤم"، و"يدافع عن آرائه من داخل حزبه ومن موقعه كمبدع وكاتب، وكمحلل صحفي".
الناقد عبد الحميد عقار يتحدث في خيمة الابداع وبدت إلى جانب الكاتبة والناقدة حورية الخمليشي
وقال بن عيسى إن الأشعري "يحمل إنسانيته معه دائما"، وأنه "بقي إنسانا، شريفا مع نفسه ومع الآخرين". وأضاف: "أعني بالشرف أن الأشعري لم يتزلف لأحد ليصبح أحدا آخر".
في صداقة بن عيسى وعشق أصيلة
في كلمة له بالمناسبة، تحدث الأشعري عن الصداقة الاستثنائية التي جمعته ببن عيسى، مشيرا إلى أنها "صداقة لم تنشأ من تواضعات اجتماعية أو من مجاملات ظاهرية، بل نشأت انطلاقا من الخلاف الخلاق والحوار العميق والإنصات المتبادل".
وعدد الأشعري عددا من مناقب بن عيسى، فقال إنه "منصت جيد، ومتحدث جيد، لا يحب أن يستمع لنفسه فقط، ولذلك هو مستمع جيد".
وأضاف الأشعري أن الزعيم الاتحادي الراحل عبد الرحمن اليوسفي، "كان يقول عن بن عيسى في غيبته إنه يُكبر فيه، أولا، إخلاصه للثقافة، وثانيا، أناقته في المظهر والمخبر، وثالثا، الروح المرحة التي يرى بها العالم".
وأشار الأشعري إلى أن هذه تبقى "شهادة من وطني كبير يقدر حق قدره الجهد الذي يبذله كل واحد منا لتقديم أجمل وأثمن ما فيه لصالح هذه البلاد. ومحمد بن عيسى قدم أجمل وأعمق ما فيه لبلده ولمدينته أصيلة، التي تسكنها أسماء رمزية نشترك جميعا في محبتها: الطيب صالح، وبلند الحيدري، ومحمود درويش، ومحمد المليحي، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمد زفزاف، ومحمد عابد الجابري وآخرين، شكلوا توليفة، هي جزء من هوية "منتدى أصيلة"، الذي اشتغل على البعد العربي في الهوية المغربية، ومد جسورا قوية مع الساحات الثقافية في كل أنحاء الوطن العربي، وهي مساحات ارتبطت بأصيلة، ليس ارتباطا مؤسسيا سياسيا، وإنما ارتباطا ثقافيا وإنسانيا وجماليا، وهذا إنجاز نعتز به جميعا".
الأشعري يتسلم من محمد بن عيسى شهادة التكريم في "خيمة الابداع" بمنتدى أصيلة
هواجس الأشعري
تحدث الأشعري عن تجربته، فقال: "دأبت على كتابة الشعر منذ عقود، وعلى كتابة الرواية والقصة من حين لآخر، وجربت المسرح والمقالة الصحفية. وفي كل ذلك، كان لدي دائما هاجس يتعلق باللغة العربية التي أكتب بها. إنها لغة أعشقها وأتمنى أدبيا وإنسانيا أن أخلق فيها لغتي الخاصة، لأن منتهى طموح أي أديب هو أن يخلق في اللغة التي يكتب بها لغته الخاصة. هذا عمل لا يمكن أن نحدد له سقفا زمنيا خاصا. نشتغل عليه من الحرف الأول الذي نخطه إلى الحرف الأخير".
محمد الأشعري يتسلم درع تكريمه في خيمة الابداع من محمد بن عيسى وبدا في الوسط الإعلامي عبد الاله التهاني
وقال الأشعري إن الشعر كان دائما حاضرا في الشعر وفي النثر. وأضاف: "هواجسي الشعرية تتبعني حتى ولو غيرت الجنس الذي أكتب فيه. وربما حاولت داخل الجنس الشعري تعديل المسارات والمقاربات، وحاولت أن أعتني في اللغة التي أكتب بها الشعر بالتعبيرات الفنية الأخرى".
وشدد الأشعري على أن الشعر لا يُكتب، من وجهة نظره، فقط باللغة، مشيرا إلى أننا "اليوم نحتاج إلى جعل الأدب بصفة عامة، والشعر بصفة خاصة، سورا لمقاومة الاحتقار الذي تتعرض له اللغة العربية في بلادنا، والاستخفاف الذي تُتعامل به مؤسسيا وثقافيا واجتماعيا". ثم أضاف: "ومع ذلك، فاللغة وحدها لا تستطيع أن تنتج كل انتظاراتنا الشعرية".
كما تحدث الأشعري عن المواضيع التي تسكنه. وتحدث، في هذا الصدد، عن الذاكرة والخيال المشترك. وقال بخصوص الذاكرة "لأننا في ثقافة تنسى كثيرا وتمحو كثيرا، وكلما استطعنا أن نستعين بذاكرتنا المشتركة لإعادة بناء العالم كلما استطعنا أن نحمي أنفسنا من النسيان".
أما بالنسبة للخيال المشترك فـ"لأننا اليوم تحت استبداد الوسائط الحديثة التي تحشر أدمغتنا بملايين الصور والأخبار والتعليقات. وإزاء هذا الاجتياح الخطير نحن مطالبون جميعا بإنتاج خيالنا المشترك، الذي يمكن اعتباره منطقة محررة في عقولنا، وليس من السهل في هذا الزمن أن نحصن هذا المناطق المحررة".
وأنهى الأشعري كلمته، قبل تسلمه درع الإبداع والتميز من يد بن عيسى، بالإشارة إلى أنه يكتب من نقص واحتمال وليس من نهاية واكتمال.
سيرة قلم
نجحت دراسات وشهادات المشاركين في الندوة، والتي يحسب لمؤسسة "منتدى أصيلة" إصدارها في كتاب جماعي تحت عنوان "محمد الأشعري .. سيرة قلم"، في إبراز منجز الأشعري وإسهاماته في مختلف الأصناف الأدبية، وإلقاء الضوء على ما تميزت به كتاباته من حمولة ثقافية وعمق فكري.
الناقد ابراهيم الخطيب يتحدث في خيمة الابداع وبدت إلى جانبه الكاتبة والناقدة زهور كرام
الأشعري المتعدد
قال الكاتب والإعلامي عبد الإله التهاني، الذي أشرف على تنسيق هذا اللقاء، إن الأشعري استطاع بغير قليل من المثابرة ومن التضحيات أيضا، أن يصنع لنفسه إقامة متجددة ومنتجة في عدة خيمات، وأن يحوز لكتاباته حمولة اعتبارية ومميزة بين أبناء جيله.
وأضاف التهاني أن الأمر يتعلق بأديب بأوجه متعددة، من خلال إبداعاته في عدة أجناس من الكتابة، شاعرا وروائيا وكاتبا صحفيا، ومحللا سياسيا، وفاعلا مؤثرا في المشهد السياسي والثقافي والمجتمعي، وباحثا في الجماليات وفي مختلف أنواع التعبيرات البصرية.
وشدد التهاني على أن المهام والمسؤوليات التي تقلدها الأشعري، "لم تمنعه من أن يبقى منسجما مع مرجعيته الفكرية، ومحافظا على انتمائه لشرف الكتابة".
دراسات موفقة وشهادات قوية
جاءت دراسات وشهادات المشاركين في الجلسات الأربع لتلقي الضوء على كامل منجز الأشعري، سواء تعلق الأمر بالشعر أو الرواية والقصة، أو المسرح والكتابات الصحفية والفكرية، أو بالتعبيرات الفنية والبصرية. وحرصت هذه المداخلات على أن تربط المنجز الأدبي والفني بالقناعات التي تسكن الأشعري، وبما ظل يدافع عنه من رؤى ومن أفكار على علاقة بما يعيشه العالم وتمر منه البلاد من تحولات وما تواجهه من تحولات وتحديات.
وبقدر ما ركزت أغلب المداخلات على المنجز الشعري والروائي للمحتفى، جاءت أخرى لتركز على عوالم إبداعية وفكرية أكدت قدرة المحتفى به على إغناء منجزه بما يخدم قناعاته ورؤاه.
من بين الدراسات والشهادات، نركز، هنا، على مداخلتي كل من الكاتب الصحافي لحسن لعسيبي، والناقد والباحث الأكاديمي عبد الفتاح الحجمري.
عينان بسعة الحلم
ركز لعسيبي على تجليات الكتابة عند الأشعري في بعدها الفكري والسياسي، مركزا، في ورقة حملت عنوان "محمد الأشعري كوشم في ظاهر اليد"، على السياقات التي خلقت وصنعت المحتفى به.
وتحدث لعسيبي عن الأشعري كمنجز مغربي خالص وكامل، يشكل عنوانا لجيل يمكن وصفه إجرائيا ب"جيل صدمة الاستقلال"، أو بشكل أدق، يضيف لعسيبي، ب"جيل خيبة الاستقلال"،في إشارة إلى "الجيل الذي فتح عينيه على وعود كبيرة وطموحات عريضة لربح الزمن الضائع للتخلف، وانتهى إلى مرارة رؤية الحلم ينسل من العين". وتساءل لعسيبي: "أليس الأشعري هو صاحب ديوان "عينان بسعة الحلم"؟".
وأضاف لعسيبي أن تلك الصدمة هي التي قادت الأشعري، ضمن جيله، مع نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي،إلى الانخراط في طريق الاحتجاج، ليس الاحتجاج الغارق في الصراخ،بل الذي يؤسس لقول المحلل والدارس الراسم للحلول، الطامح لبناء نظرية لمشروع مجتمعي مختلف،سيشكل ضمن سياقه التاريخي في سيرورة الفعل المغربي،عنوانا لجيل ناهض، ناضج وفاعل.
وأشار لعسيبي إلى أن الأشعري خاطب التاريخ من موقع السياسة، فصار ذلك الإسم المختلف الذي نعرفه، والذي سيبقى راسخا في ذاكرة الأدب المغربي.
اشكون انت؟( من انت؟)
بقدر ما ألقت مداخلة عبد الفتاح الحجمري الضوء على جانب من منجز الأشعري الأدبي، أظهرت قدرة هذا الأخير على التقاط إشارات ووقائع وتوظيفها خدمة لمشروع متميز.
ركز الحجمري، في ورقته التي حملت عنوان "من أنت .. هل بلا إسم؟"، على مسرحية "اشكون انت؟" التي ألفها الأشعري، مستلهما أحداثها من الرسالة المفتوحة التي وجهها الصحافي الراحل خالد الجامعي (1944 _ 2021) إلى ادريس البصري(1938 _ 2007)، وزير الداخلية السابق، والتي نشرتها صحفية "الرأي" بالفرنسية سنة 1993، وكان الجامعي قد تحدى فيها الوزير البصري بكل إصرار وجرأة، مما جاء فيها أن "التنازلات الصغيرة تتحول في مع مرور الوقت إلى تنازلات كبرى، كما أن الخوف والمخاوف الصغيرة تتحول مع مرور الوقت إلى خنوع واستسلام. إن ما يتغذى عليه الشطط في استخدام السلطة هو خوفنا وخنوعنا اليومي".
وأوضح الحجمري أن شخصيات مسرحية الأشعري تستوحي بعض مواقفها من أصداء وعبارات رسالة الجامعي إلى البصري، بشكل ينقل للعلاقة بين الأدب والسياسة.
وتوقف الحجمري عند مكونين أساسيين في هذا العمل، بحديثه عن البطل، الذي هو شخصية مركبة تجسد صورة معقدة متعددة الأبعاد تعكس تصورات عميقة حول مفهوم السلطة وطبيعة الإنسان، دلالتها تكمن في كونها تعكس صراعا داخليا. فضلا عن الماضي الذي ليس عملا ثابتا، بل هو قابل للتحول والتكرار.
وبعد أن تحدث عن طبيعة النص المسرحي، أنهى الحجمري بالإشارة إلى أن الجامعي ضمّن رسالته مقولة لها معنى عميقا، قالها الخليفة عمر بن عبد العزيز منذ قرون، شدد فيها على أن "السلطة قدوة وليست قوة". وأضاف: لعل هذه المقولة إجابة عن سؤال "شكون انت؟"، وهي "مقولة صالحة لكل زمان ومكان".
سيرة الأشعري
قدم "منتدى أصيلة" الأشعري باعتباره أديبا بأوجه متعددة، ومبدعا في عدة أجناس من الكتابة. دشن مساره بالإبداع في الشعر، وكان وجها بارزا بين شعراء جيله، ينشر قصائده في الملاحق والصفحات الثقافية للصحف المغربية، قبل أن يطل على القراء بديوانه الأول "صهيل الخيل الجريحة" (1978)، لتتوالى بعدها مجموعاته الشعرية التي بلغت حتى الآن، 11 ديوانا مطبوعا.
في شعر الأشعري شغف بالحياة والحرية، واحتفاء بانتصار التضحيات، وصبر على المكابدات؛ ظل عبر رحلته الطويلة مع الكلمة، وفيا للدوافع والمرتكزات الفكرية، التي حملته على ولوج الحقل الشعري، وجعلت منه شاعرا حداثيا، ينتمي إلى بلاغة شعرية مغايرة، تقوم على التجريب في اللغة والرؤية، كما في الصورة الشعرية، فبات عبر دواوينه المتتابعة، يصغي لنبض الحياة، وينصت لأنين الأجيال وكفاحها، لاهتا وراء لذة التضحيات، صانعا للقيم الإنسانية، معمارا شعريا يليق بها، ومحرابا جماليا لتمجيدها.
لم يتوقف الأشعري عند حدود الشعر فقط، بل وسع من أفقه الإبداعي، ونوع بوابات الولوج إليه. وهكذا سيبقي على خيمته الشعرية قائمة ومفتوحة، ويستثمر بموازاتها في إطلاق مشروعه السردي، الذي سينتج فيه 6 روايات ومجموعتين قصصيتين. وفي هذا اللون من الكتابة الأدبية، سنلتقي بأسلوب الأشعري، وقد تأقلم بسرعة مع قواعد النص الروائي والقصصي، حريصا على رشاقة اللغة ودقة الوصف، دون أن يبتعد في إنتاجه السردي، عن عناصر ومقومات الجمالية التعبيرية التي جلبها معه، من سنوات تجربته الشعرية.
جاءت قصائد الأشعري صدى لنشدان الحرية وللكفاح من أجلها، وللذات الجريحة المكلومة، التي تناجي شجونها، وتتلمس حرقتها وتعيش تمزقاتها، بينما جاء إنتاجه السردي لينبش بإبداعية خلاقة، في ذاكرة المرحلة التاريخية التي عاشها، وكان واحدا من شهودها الأساسيين، ومن أبرز الفاعلين في سياقاتها الثقافية، وفي حركيتها السياسية والنقابية. وهي مرحلة خبرها هذا الكاتب، وخاض فيها خوضا عميقا، وتفاعل معها، سواء من موقعه ككاتب صحفي لامع، اشتهر بكتابة عموده اليومي "عين العقل"، أو بحكم مسؤولياته السياسية، أو موقعه الثقافي البارز كرئيس لاتحاد كتاب المغرب، منذ عام 1989 وعلى امتداد ثلاث ولايات، قبل أن يصبح وزيرا للثقافة لفترة قاربت عشرة أعوام، بقي خلالها منسجما مع مرجعيته الفكرية وهويته الإبداعية.
التعليقات