د. خالد الدخيل

يتزامن تصاعد الخلاف السعودي السوري مع اقتراب القمة العربية في دمشق. ليست القمة سبباً للخلاف، ولا موضوعاً له. القمة هي ضحية من ضحاياه. قيل الكثير عن المفترض فيما يتعلق بمؤسسة القمة وعلاقتها بالخلافات العربية. قيل إنه بدلاً من ربط القمة بالخلافات، كان المفترض أن تكون هذه المؤسسة منبراً لتناول هذه الخلافات. لكن هذا ما لم يحدث، لا قبل قمة دمشق، والأرجح أنه لن يحدث بعدها. كثرة الحديث عن المفترضات حول هذا الموضوع، يعكس الواقع السياسي العربي. على مدى أكثر من نصف قرن، لا يسمح هذا الواقع العربي بما هو مفترض. وكجزء من هذا الواقع، كان ولا يزال حضور القمة، ومستوى هذا الحضور بحد ذاته ميزة في عرف الدبلوماسية العربية للدولة المضيفة، وعلامة على نجاحها سياسياً. وكثيراً ما تستخدم هذه quot;الميزةquot; كورقة للتعبير عن الخلاف مع الدولة المضيفة وللضغط عليها. من جانبها تعمل الدولة المضيفة على عدم المساس بهذه الميزة. بمثل هذه الطريقة لم يتغير الواقع السياسي العربي، سواء انعقدت القمة بكامل طاقم الملوك والرؤساء، أو انعقدت بأقل من ذلك بكثير.

القمم العربية التي تركت بصمتها على الحياة السياسية العربية قليلة إلى حد الندرة. وربما بسبب ذلك صارت القمة مجرد عزومة احتفالية يشعر المضيف فيها بالزهو عدنما يلتئم جمع الملوك والرؤساء، وبالغبن إذا لم يكن الحضور على مستوى يتلاءم مع تسميتها. ما يحصل لقمة دمشق حالياً ليس استثناءً. حصل من قبل لقمم أخرى، وبمشاركة سورية. وليس استثناءً كذلك أن سوريا من جانبها تحاول توظيف quot;ميزةquot; التئام القمة القادمة للتغطية على دورها في الأزمة اللبنانية، وللبرهنة على أنها ليست معزولة إقليمياً. بدلاً من أن تكون القمة منبراً لاجتراح الحلول لأزمات عربية لا تتوقف، صارت ستراً، أو هكذا يبدو، لهذه الأزمات يختفي خلفه البعض، أو مناسبة يستخدمها البعض الآخر. ليس غريباً والحالة هذه أن القمم العربية لن يذكر لها التاريخ أنها ساهمت في إيجاد حل لأي من أزمات العرب.

ربما أن الظرف السياسي فرض مثل هذه المقدمة، وهو كذلك، إلا أنها أيضاً مقدمة لابد منها لوضع قضية القمة جانباً في موضوع الخلاف السعودي السوري. لا علاقة للقمة، لا من بعيد ولا من قريب، بمنشأ هذا الخلاف، ولا بطبيعته، ولا حتى بمآلاته التي يمكن أن ينتهي إليها. ومثل ذلك العلاقة بين سوريا وإيران. هذه علاقة ليست وليدة اليوم، ولم تؤثر سلباً في علاقات سوريا مع السعودية من قبل. الأرجح أن التحول الذي حدث لهذه العلاقة مؤخراً مع القيادة الجديدة في دمشق، وجعل سوريا تعتمد على إيران في سياستها الإقليمية، وعلى حساب تحالفاتها العربية، ربما فرض نفسه كعامل مساعد في تأزيم الخلاف مع الرياض. لم تكن علاقة سوريا مع إيران على هذا النحو أيام الأسد الأب. وفي كل الأحوال يبقى أن منشأ الخلاف السعودي السوري ليس في طهران وعلاقتها مع دمشق.


الإرهاصات الأولى لخلاف الرياض ودمشق، كانت عام 2004 عندما أقدمت سوريا على فرض التمديد للحود... فكان موقفها جرس إنذار، موحياً بشكل ثقيل!


لماذا إذن برزت فجأة الخلافات السعودية السورية؟ وأقول فجأة لأن ظهور خلاف بين الرياض ودمشق بالوتيرة والحدة التي انتهى إليه أخيراً أمر لافت، وربما مثير للدهشة لدى البعض. ربما قيل إن طبيعة وحجم الأحداث والتطورات التي حصلت في المنطقة في السنوات الأخيرة، وضعت العلاقات السعودية السورية أمام تحد لم تعرفه من قبل. فمن أحداث سبتمبر، والاحتلال الأميركي للعراق، والحرب على الإرهاب، والانقسامات الفلسطينية، إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان، كلها أحداث كان من الصعب أمامها تفادي انقسام في الرؤية، وافتراق في المصلحة بين البلدين. قد تصح هذه النظرة للموضوع لو أن العلاقة بين البلدين حديثة عهد، وتعرضت لاختبار قاس في سنواتها الأولى. لكن الأمر على العكس من ذلك تماماً. فهذه علاقات بدأت من السنة الأولى لتولي الرئيس الأسد الأب للسلطة عام 1970، وامتدت لأكثر من 35 سنة. وقد صمدت هذه العلاقات طوال أكثر من ثلاثة عقود أمام أحداث أكبر حجماً، وأكثر خطورة من تلك التي يقال إنها مبرر كاف لما يحصل لها الآن. ما بين 1970، ووفاة الرئيس حافظ الأسد عام 2000، واجهت العلاقات السعودية السورية: حرب أكتوبر عام 1973، وزيارة السادات للقدس في 1977، واتفاقية quot;كامب ديفيدquot; عام 1979، والثورة الإيرانية في العام نفسه، والاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار مدينة بيروت لمدة ثلاثة أشهر صيف عام 1982، والحرب العراقية الإيرانية (1980 ndash; 1988)، والغزو العراقي للكويت عام 1990، وحرب تحرير الكويت، وبداية عملية السلام بكل مطباتها إبتداء من 1991.

أمام كل ذلك لا يمكن القول إنه لم تكن هناك اختلافات بين الرياض ودمشق في مقاربة هذه الأحداث الجسام. كانت هناك اختلافات في الرؤية، بل يمكن القول بأنه أمام بعض هذه الأحداث كان هناك اختلاف في المصلحة أيضاً، وكان من الممكن لاختلاف الرؤية وتباين المصلحة هنا أن يرقى إلى مستوى الصدام. أبرز، وربما أخطر مثال على هذه الاختلافات كان الموقف من الحرب العراقية الإيرانية. كانت السعودية وسوريا على طرفي نقيض من هذه الحرب. وفي السياسة العربية آنذاك كان مثل هذا الاختلاف كفيل بتفجير العلاقات بين البلدين. لكن رغم ذلك صمدت العلاقات إلى درجة بدا الأمر وكأنه على العكس من حقيقته. هذا يشير إلى أن القيادة في البلدين في تلك المرحلة كانت تعتبر العلاقة بينهما من الأهمية الاستراتيجية لكليهما أنه لابد من التعايش مع اختلافات لا يمكن تفاديها في السياسة في سبيل الهدف الاستراتيجي المشترك. وهذا تحديداً ما يبدو أنه اختلف في السنوات الأخيرة، ويشير من ناحية أخرى إلى أن تحولاً في العلاقة بين الرياض ودمشق قد حصل. هل هناك ما يبرر مثل هذا التحول وعلى هذا المستوى؟ بل هل هذا ما هو حاصل الآن؟ لماذا صمدت العلاقات، ونجحت في التعايش مع اختلاف الرؤية وتباين المصلحة طوال أكثر من خمس وثلاثين سنة، وفشلت لاحقاً أمام أحداث أقل حجماً، وأقل مدعاة للصدام؟ ما الذي حدث بين هاتين المرحلتين، ويبرر القول بأنه المسؤول الأول قبل غيره عن اختلاف رد الفعل، وعن وهن العلاقة بين السعودية وسوريا أمام أحداث وتطورات ليست استثنائية، بل طبيعية ومتوقعة؟ لماذا دخلت هذه العلاقات حالة من الفتور قارب حدود التوتر، وهو أمر لم تعرفه من قبل؟

ما يفرض مثل هذه التساؤلات ليس فقط حجم الخلاف السعودي السوري، بل أيضاً حقيقة أن الأهمية الاستراتيجية لكل من طرفي الخلاف بالنسبة للآخر، لا زالت كما هي. ولعله من المعروف الآن بأنه انطلاقاً من ذلك، جعل الرئيس حافظ الأسد من علاقات سوريا العربية، وخاصة مع الدول الكبيرة منها، مرتكزاً أساسياً للسياسة الخارجية السورية. كانت الأهمية التي تمثلها السعودية ومنطقة الخليج العربي بالنسبة لسوريا، والعكس أيضاً صحيح، هي السبب الذي فرض تجاوز الخلافات أو التعايش معها في سبيل بقاء العلاقة لأهميتها. حالياً لا يبدو الأمر كما كان عليه من قبل؟ مما يطرح تساؤلاً آخر في هذه الحالة عن إن كان انفجار الخلاف السعودي السوري على هذا النحو يعبر عن تغير في الرؤية الاستراتيجية لدى أي من طرفي العلاقة، وبالتالي تغير في وجهة خياراته وتحالفاته الإقليمية.

متى انفجر الخلاف بين البلدين؟ لعل الإرهاصات الأولى لذلك كانت في عام 2004 عندما قارب عهد الرئيس اللبناني السابق إيميل لحود على الانتهاء. حينها اتضح أن القيادة السورية تريد التمديد للحود في وجه معارضة قوية لبنانية وعربية ودولية. لم تعلن السعودية حينها موقفاً من هذه المسألة. لكن السياق اللاحق للأحداث يوحي بأنها لم تكن مع فكرة التمديد. في تلك المرحلة كان التنسيق بين السعودية وسوريا حول الملف اللبناني قد ترسخ. إقدام دمشق على فرض التمديد على الجميع كان أشبه بجرس إنذار. كان موحياً بشكل ثقيل.