محمد عيادي


أعادت دعوة القس الأميركي النكرة تيري جونز لحرق القرآن الكريم، وتمزيق شرذمة من المتطرفين للمصحف سواء في أميركا أو بريطانيا، وعدد من مظاهر العداء المتصاعدة للإسلام والمسلمين (الإسلاموفوبيا) طرح مرة أخرى سؤال جدوى المؤتمرات التي نظمت حول موضوع الحوار بين الأديان، وبالأحرى السؤال عن فشلها في خلق مناخ من التسامح بين أتباع مختلف الأديان وتحديدا بين الديانات السماوية.
مراجعة سريعة لعدد من المؤتمرات التي عقدت حول الحوار بين الأديان بما فيها تلك التي عقدت بمقر الأمم المتحدة، تشير إلى ثلاثة أسباب أساسية للفشل في خلق بيئة عالمية متسامحة دينيا نبسطها باختصار فيما يلي:
الأول: إلباس المصالح السياسية لبوسا دينيا، بحيث وظفت الدول الكبرى تلك المؤتمرات ومن يوصفون بـ quot;رجال الدينquot; في سبيل تنزيل استراتيجيتها في الضغط على دول العالم العربي والإسلامي في تبني رؤيتها للمسألة الدينية، وتحديدا لمفاهيم مثل التسامح والتعايش، وتحكم على نجاح تلك المؤتمرات بمقدار تبني تلك المفاهيم وفقا لتلك الرؤية التي تحكمها السياسة أولا وأخيرا.
وأوضح مثال على هذه المسألة الضغوط التي مورست من أجل تغيير المناهج الدراسية وطريقة تدريس وتعليم الإسلام في المدارس، بما يعني أنها سلمت بالربط بين الإسلام والعنف قبل أن يؤكد الحوار هذا الربط أو يكذبه ويدحضه.
المثال الآخر هو عدم تفريق بعض الدول الغربية بين مطلبها للجاليات المسلمة بالاندماج بشكل فاعل وإيجابي في مجتمعات الاستقبال -وهو مطلب معقول- وبين احترام خصوصياتهم وحقهم في الاحتفاظ بهويتهم في إطار مقبول، ونجد بعض تلك الدول تعتبر الذوبان الكامل معيار نجاح الاندماج.
الثاني: أن المؤتمرات التي عقدت ظلت فوقية من جهة، ومن جهة أخرى لم تتخلص من اللغة الدبلوماسية ولم تتميز بالجرأة والصراحة من خلال الفصل بين الأمور العقدية والمسائل التأسيسية المليئة بالإشكالات التي يصعب الوصول فيها إلى توافقات وتنازلات، وبين فروعها وتمثلاتها الفكرية والسلوكية التي يمكن الوصول فيها لتوافقات وبناء مشتركات، فالديانات الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية) تتفق مثلا على مبدأ الدفاع عن العدل وتحريم الظلم، والمطلوب أن يثمر الحوار تبنيا لبرنامج عمل جماعي يرفض الظلم الواقع في الكثير من بقاع العالم، وكذلك الأمر بالنسبة لمحاربة الفقر، والعنف باسم الدين، مع التركيز على أهمية احترام الاختلاف وحفظ حق الأقليات الدينية الطبيعية، وليس الأقليات التي تُصنَع صنعا لتصبح سيفا سياسيا يسلط على رقبة هذه الدولة أو تلك.
الثالث: عدم استقلالية كثير من وسائل الإعلام، وتبعيتها للأجندات السياسية، فضلا عن الإعلام الديني والطائفي إذا صح التعبير، حيث نجد قنوات فضائية ومجلات وصحف في الغرب تركز فقط على مساوئ المسلمين وسلوكياتهم دون الحديث عن الإيجابيات، وتربط بدون تحفظ بين الإسلام والعنف بطريقة غير مهنية ومعيقة لأي حوار بين الأديان، بحيث تخلق رأيا عاما مضللا بكل ما تحمله كلمة التضليل من معنى، فضلا عن عدم فصل الكثيرين في الغرب وعلى مستوى رسمي بين حرية التعبير وبين الإساءة لعقيدة الآخرين وهو الأمر الذي يشكك للأسف في مدى مصداقية حديثهم عن حوار الأديان ورغبتهم في تسامح ديني على أرض الواقع بعيدا عن الشعارات التي تطلق للاستهلاك الإعلامي، وآخر مثال في هذا السياق سماح الدنمارك بتوزيع كتاب أعاد نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، رغم إثارتها غضب العالم العربي والإسلامي عندما نشرت أول مرة في صحيفة quot;يولاندس بوسطنquot; الدنماركية عام 2005.
بالمقابل لم تستغل وسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي، خاصة منها المعتبرة وذات الانتشار الواسع، الفضائح الجنسية مثلا داخل جدران عدد من الكنائس، ولم تجعلها مناسبة للمز ولا مس الدين المسيحي والربط بينه وبين الشذوذ الجنسي لمجرد أن قلة من المرضى المحسوبين عليه سقطوا في الرذيلة، وهذا سلوك حضاري ومستوى إنساني عال ورسالة قوية كان على الإعلام الغربي عموما أن يستقبلها بما يليق بها.
باختصار.. إن الحوار بين الأديان والتسامح والتعايش السلمي بين أتباعها ليس شعارات تطلق ولا خطابات للاستهلاك الإعلامي، وليس أصلا تجاريا لرجال السياسة يوظفونه حسب ما تقتضيه مصالحهم، بل مواقف عملية وإجراءات ترى وتسمع وتلمس، وما عدا ذلك فهو هراء واحتيال لن يحل المشاكل بل يعقدها ويطيل عمرها.
ويبقى الوصول لبرنامج عملي مشترك بين الأديان لتدعيم التسامح الديني الحقيقي رهين باستقلالية ممثليها (رجال الدين والعلماء والمفكرين) عن الأجندات السياسية، والارتباط أساسا بهدف خلق بيئة عالمية متسامحة دينيا تسمح بالتفرغ للمشاكل الحقيقية للإنسانية من قبيل التنمية ومحاربة الفقر والظلم.