إياد مسعود

لا يتردد العديد من المراقبين، عن التأكيد أن بنيامين نتنياهو هو الذي سيتحمل المسؤولية إذا ما انفجر الوضع في الضفة الفلسطينية وعاد العنف إلى الشوارع في صدامات دموية بين قوات الاحتلال والمواطنين الفلسطينيين، وإذا ما عادت الصواريخ تنطلق من قطاع غزة نحو أهدافها الإسرائيلية مرة أخرى. ويستند المراقبون، في تقديرهم هذا، إلى أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بدأت تنهار، وأن لا سبيل مرة أخرى إلى إعادة إحيائها بضمانات تقودها إلى بر الأمان، وتنتج ما يمكن تسميته تسويه معتدلة.
ويلاحظ المراقبون، في السياق، أن الجانب الفلسطيني قدم كل ما بوسعه تقديمه لإنجاح العملية التفاوضية، لكنه اصطدم على الدوام بالتعنت الإسرائيلي ورفض حكومة نتنياهو توفير متطلبات نجاح العملية التفاوضية.
فلقد طرح الرئيس محمود عباس، بداية، ثمانية متطلبات لاستئناف العملية التفاوضية من بينها وقف الاستيطان، وتحديد المرجعية، وجدول الأعمال، والسقف الزمني، وآليات التنفيذ، وفك الحصار عن القطاع وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين ... ثم، ولأجل إفساح المجال أمام المفاوضات، وحتى لا يتهم ـ كما يقول أركانه ـ بتعطيل المسيرة السياسية، تراجع عن معظم المتطلبات، وتمسك بواحد منها هو وقف الاستيطان في الضفة الفلسطينية وفي مدينة القدس. ومع أن الجانب الفلسطيني لم يقتنع أن الصيغة التي توافق عليها المبعوث الأميركي جورج ميتشل مع نتنياهو هي وقف حقيقي للمفاوضات، فإنه وافق مع ذلك على دخول مفاوضات التقارب(المفاوضات غير المباشرة) تمهيداً لإطلاق المفاوضات المباشرة في مناخات سياسية أكثر إيجابية. أما اللجنة العربية للمتابعة فقد منحت المبعوث الأميركي أربعة أشهر لإحداث تقدم ملموس فيquot;مفاوضات التقاربquot; وإلا فالبديل الذهاب إلى الأمم المتحدة وطرح الأمر هناك، وطي صفحة المفاوضات.
انتهت فترة الأشهر الأربعة، ولم يقع التقدم المطلوب. وإرضاء للولايات المتحدة، وحتى لا يتهم العرب والفلسطينيون بأنهم يعرقلون العملية السياسية، وافقوا على الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، وتراجعوا عن فكرة الذهاب إلى الأمم المتحدة، عسى أن يشكل ذلك دفعة مقدماً، للجانب الأميركي، تمكنه من الضغط على الإسرائيليين، لتعزيز صيغة تجميد الاستيطان، وتمديد القرار إلى ما بعد26/9/2010، أي موعد انتهاء فترة الأشهر العشرة التي أعلنها نتنياهو مدة للتجميد الموقت للاستيطان.
وبدلاً من الدخول في بحث الملفات التفاوضية بدءاً من رسم حدود الدولة الفلسطينية (ومعها حدود إسرائيل) وبحيث يصبح وقف الاستيطان في مناطق الدولة الفلسطينية أمراً غير قابل للنقاش والمساومة، أصر نتنياهو أن يبدأ ببحث ما أسماه متطلبات أمن إسرائيل. والأمن هنا، المقصود به، الأمن العسكري، والغذائي، والمائي، والديمغرافي، وغيره. أي أن الأمن، حسب تعريف نتنياهو، هو إعطاء إسرائيل الحق في أن ترسم الحدود بما يخدم المشروع الصهيوني، خارج سياق الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، بما في ذلك القرار242 ومبدأ عدم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. وفي هذا السياق طرح نتنياهو الاستيلاء على الأغوار ونهر الأردن، بذريعة مجابهة الخطر الآتي من إيران(!)، علماً أن هذا يعني سلخ أكثر المناطق خصوبة عن الدولة الفلسطينية وحرمانها من حقها في مياه نهر الأردن. كما طرح الاستيلاء على القسم الفلسطيني من شاطئ البحر الميت والآبار الجوفية في الضفة (الآبار الشرقية والغربية) وتموضع القوات الإسرائيلية في قمم جبال الضفة، وعند معابر الدولة البرية والبحرية والجوية، بذريعةquot; منع تسلل الإرهاب وتدفق السلاح إلى مناطق الدولة الفلسطينيةquot;. خلاصة الأمر أن نتنياهو اقترح، في الواقع، دولة فلسطينية ذات حدود موقتة، يتم الإعلان عنها مستقلة وعضواً في الأمم المتحدة، وبين الدولتين، الفلسطينية (ذات الحدود الموقتة) وإسرائيل، تدور مفاوضات الحل الدائم، ولفترة قد تمتد لعشر سنوات. على أن يسبق ذلك الإعلان عن انتهاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ويوقع الطرفان معاهدة سلام دائمة، وتسقط
quot;مبرراتquot; المقاطعة العربية لإسرائيل.
مثل هذا الحل، لا جديد فيه سوى أنه يستعيد مشروع إيهود باراك الذي طرحه على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عشية استحقاق مفاوضات الحل الدائم في أيار\مايو1999، وأطلق عليه اسم quot;حل الإطارquot;، وبحيث ينقل إلى مفاوضات الحل الدائم ما تبقى من ملفات الحل الانتقالي، بما في ذلك النبضة الثالثة من إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في المنطقة(ج) وتبلغ ما يساوي 60%من مساحة الضفة الغربية. وبحيث تتحول قضايا الحل الدائم نفسها إلى حلول جزئية، يتم تناول كل ملف منها على حدة وبمعزل عن الملف الآخر، وفي فترة مفتوحة زمنياً حتى ولو امتدت إلى عشر سنوات.
الرئيس عرفات رفض quot;حل الإطارquot;، وذهب الجميع إلى كامب ديفيد(2000)، التي وصلت إلى الطريق المسدود، وإلى انتفاضة ثانية.
التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن الفلسطينيين لن يتجاوزوا تجاربهم، وهم يدركون جيداً أنهم منحوا السلام عشرات الفرص، وان الجانب الإسرائيلي هو الذي فرط بهذه الفرص وأهدرها. وأمام نتائج الانتخابات التشريعية النصفية في الولايات المتحدة،
يصبح من المتوقع أن يذهب نتنياهو نحو المزيد من التعنت مستفيداًَ مما طرأ على خارطة العلاقات الأميركية الداخلية من تطورات ليست لصالح الرئيس باراك اوباما وإدارته الديمقراطية. كما يصبح من المتوقع أن يمد نتنياهو يده إلى الجمهوريين وهم في نشوة الانتصار على الحزب الديمقراطي، ليتقي، عبر تعزيز العلاقات معهم، ضغوط الإدارة الأميركية. بل قد يصبح من المتوقع أن يخفف أوباما ضغوطه(غير الفاعلة أصلاً حتى الآن)على نتنياهو وحكومته. وهو أمر، إن وقع، معناه أن التطرف اليميني في إسرائيل سوف تتصاعد وتيرته ويزداد تصلبه، وتعنته، وأن نتنياهو سوف يتمسك أكثر فأكثر بمشروعه quot;الأمنيquot; للحل مع الفلسطينيين، وبحيث لا يترك لهؤلاء مخرجاً سوى الذهاب مرة أخرى إلى المقاومة الشعبية، مؤكدين أن نتنياهو، هو وحده، من يتحمل مسؤولية عودة العنف إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.