علي حرب



مرة أخرى يستأثر لبنان بالاهتمام من جانب أشقائه العرب، بقدر ما يشكّل مصدر قلق لهم. من هنا كان اللقاء الثلاثي الذي عقد في بيروت نهاية شهر يوليو، بين الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشّار الأسد والرئيس اللبناني ميشال سليمان.

هذا بالإضافة إلى ما جرى على هامش هذا اللقاء الهّام من لقاءات جانبية لها أهميتها أيضاً، لكونها تمّت مع الأطراف المتنازعة في لبنان على السلطة والغنيمة.

ولا أنسى الحدث الآخر الهام الذي تمثّل في زيارة أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والتي لم تكن قصيرة لساعات، كزيارة نظيريه السوري والسعودي، بل استمرت لأيام قام خلالها بزيارة جنوب لبنان، لتدشين مشاريع موّلتها قطر في إطار إعادة إعمار ما هدمته حرب تموز 2006.

وقد رافق الأمير فيها رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء، أي الرؤساء الثلاثة كما يقال في لبنان. وهذا ما ينفرد به هذا البلد دون سائر البلدان، إذ فيه ثلاثة رؤساء، فضلاً عن رؤساء الكتل والأحزاب والطوائف. وهذه هي حصيلة الطائفية التي هي ميزة لبنان وعلّته في آن، إذ هي صنعت للبنان حريته، ولكنها تشكّل مقتله في الوقت نفسه.

بالطبع كان محوَر هذه اللقاءات مشكلة لبنان المزمنة والمتجددة. ولذا فقد تمّت فيما كان اللبنانيون يعيشون في أجواء من التوتر الشديد، إثر ما أُشيع من معلومات حول قرب صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية، والذي يتضمن اتهامات لعناصر من حزب الله يُقال حتى الآن بأنها غير منضبطة، الأمر الذي أحدث ردود فعل سريعة غاضبة وعنيفة، ليس فقط من جانب قادة الحزب، بل من جانب قادة المعارضة الذين شنّوا هجوماً على المحكمة، واتهموها بأنها أداة في يد أميركا وإسرائيل تعمل على تشويه سمعة المقاومة وزرع الفتنة بين اللبنانيين.

هل تنجح هذه اللقاءات التي جرت على مستوى القمة، لنزع فتيل زالفتنةس التي كثُر الحديث عنها والتهويل بها؟

الإجابة ليست بالبساطة التي نحسب، لأن المعضلة في لبنان داخلية بقدر ما هي خارجية. فهي خارجية كما تتجسّد في القوى والدول الفاعلة التي تلعب على الساحة اللبنانية، أو التي تعمل على زعزعته ولا تريد له الاستقرار. وهذا شأن العرب الذين أثبتوا دوماً أنهم متفقون على الاختلاف والنزاع، لا على المصالحة والاتفاق، ولذا فهم يتصارعون على لبنان ويخشون منه أكثر مما يخشون عليه. فكيف يكون بوسعهم حلّ المشكلة؟!

أما المشكلة الداخلية فهي دائمة، كما تتجسّم في نظام سياسي يتنازع فيه ممثلو الطوائف على الصلاحيات، كما يتصارعون على المناصب والمكاسب. هذه المعضلة تنام أحياناً، ثم تستيقظ، إما بسبب تغيّر المعطيات وموازين القوى في الداخل، وإما بسبب هبوب العواصف من الخارج، لكي تترجم توتراً وانفجاراً وحروباً متلاحقة، تنتهي باتفاق يكون مجرد هدنة بين صدامين، تطول أو تقصر، كما حصل بعد اتفاق الطائف عام 1989، واتفاق الدوحة عام 2008.

وها هي الأوضاع تنذر بالانفجار من جديد، فهل ما جرى من لقاءات وتفاهمات في بيروت، يشكّل اتفاقاً جديداً غير معلن أم تثبيتاً للاتفاقات القديمة؟

أياً يكن ما جرى من مصالحات واتفاقات كانت جميعها مؤقتة، بمعنى أنها تموّه المشكلات ولا تعالجها، لأن المشكلة نشأت، أصلاً، بعد أن أصبح لبنان منطلقاً للمقاومة الفلسطينية التي انتقلت إليه بقياداتها ومؤسساتها ومنظماتها العسكرية، وخاصةً بعد أن تحوّل، منذ أكثر من عقدين، ساحة وحيدة للمواجهة في ما يخصّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، إذ يُراد له وحده أن ينوب عن سواه في شأن مصيري هو مشترك بين العرب كما يدّعون.

وبالطبع فاللبنانيون الذين يتصرفون دوماً بوصفهم ملكيين أكثر من الملك، بولاءاتهم الخارجية المختلفة والمتناقضة، لهذا المحور أو لتلك الدولة أو لتلك الايديولوجية أو العقيدة، إنما يسهمون في تفكيك بلدهم، بتحميله عبئاً ينوء به ويهدّد وحدته.

وهكذا يعاني لبنان من آفة مزدوجة: الأولى هي التدّخل الخارجي العربي أو الإقليمي أو الدولي، الذي يتخّذ منه مسرحاً للصراع أو ورقة للمفاوضة أو ساحة لتصفية الحسابات؛ الثانية هي العطل اللبناني الأصلي المتمّثل في تغليب الولاء للخارج على منطق الشراكة في الداخل، الأمر الذي يُترجم فضائح في المواقف المتناقضة، بمعنى تشدّد في المعايير مع الخصم في الداخل، مقابل تخلٍ عنها، بل انتهاكها في ما يخصّ العلاقة مع القوى الخارجية.

ومن مثالات ذلك أن اللبناني يتّهم شريكه في الداخل بالخيانة والعمالة لمجرد كونه يستقبل بوّد سياسياً أو دبلوماسياً أميركياً، فيما هو يقيم أوثق التحالف مع دول وأنظمة تعترف بإسرائيل، أو تريدها شريكاً في المفاوضة، أو تستقبل ساستها على أرضها.

وتلك هي المفارقة الفاضحة: فاللبناني المنخرط في صراعات المحاور العربية والإقليمية والدولية، يتصرف بوصفه يملك أجندته الخاصة ومشروعه أو سلاحه الخاص، ولذا فإن آخر ما يفكّر فيه هو بلده، الأمر الذي يجعله رهينة الدول والقوى الفاعلة من الخارج.

ولكن لكل دولة من دول الإقليم مشكلتها في وضع مأزوم، تتشابك فيه المصالح والمصائر. ومن لا يستطيع حل مشكلته لن يساهم أو يساعد في حلّ مشكلة سواه، بل يعمل على إبقائها قائمة في انتظار حلّ مشكلته، كما يجري التعامل مع قضايا فلسطين والعراق، واليمن أيضاً، وخاصةً لبنان الأمر الذي يبقيه بلداً معلقاً ووطناً مرجأً.

هذه هي العلّة الأصلية. فالتدّخل من الخارج لا يحّل المشكلات، وربما يعمل على خلقها. ولا غرابة، ما دمنا نهرب من المحاسبة والمراجعة، فنقلب الأمور أو نطمس الحقائق، لنحوّل الهزيمة إلى نصر ونحسب التدمير تحريراً والموت حياةً.

وهذا ما يفسّر لنا كيف أنه، بعد عقود من المصالحات والاتفاقات، تزداد المشكلة تعقيداً أو استعصاءً.. وهكذا، فبالإضافة الى المشكلة الفلسطينية، أصبحنا إزاء مشكلات أخرى: المحكمة الدولية، الملف النووي الإيراني، الحرب الأهلية في العراق، منطق الدويلات والإمارات الجهادية..

لم ينجح العرب حتى الآن بتدخلاتهم وجهودهم، هنا أو هناك، في حلّ مشكلة أو وأد فتنة أو تجنّب كارثة. طبعاً، هناك استثناءات، وإلاّ لضاق الأمل وعمّ الفساد والخراب. مما يعني، في النهاية، أن إدارة الشأن المشترك تحتاج إلى التفكير والعمل على أسس وقواعد جديدة، تتيح اجتراح أو بناء لغة مشتركة أو ثقة متبادلة، أو أُطر للتضامن فعّالة ومثمرة..