نجمة إدريس

توفي أمس الأول شاعر الكويت الكبير أحمد السقاف، بعد عمر مديد قضاه فارساً في ميدان الأدب والشعر، ودبلوماسياً محنكاً، وقائداً للتنوير، وممثلاً لبلاده في منتديات عربية وعالمية عديدة.

ها هو الفارس يترجل، بعد أن أتم مهمته واطمأن على غرسه لينام في سلام.

لو أمكن للمتأمل أن يختزل في بضع كلمات شخصيةً ثرية وقامة باسقة كشخصية أحمد السقاف، لقلنا إنه خلاصة لموهبة الحضور، ويقظة الوجدان، والتحفز للتعامل مع قضايا عصره بوعي وشجاعة نادرين، مع استعداد مطلق للجهاد في سبيل ما يعتقد. وما كان لهذه السمات الشخصية أن تتألق لو لم يكن الرجل ابناً لمرحلة متغيرات وتحديات ثقافية وفكرية في مجتمع كان يستعد حينذاك (مطالع الخمسينيات) لدخول معترك اجتماعي وسياسي واقتصادي جديد.

جاء السقاف في عهد التبشير بصناعة مجتمع أكثر يقظة ووعياً، كان العمل منصباً فيه على تحقيق مشروع نهضوي غايته صناعة الإنسان وتعمير الأرض والانفتاح على العالم الحي، والتبشير بالمزيد من مشاريع التنمية والحريات والحياة الديمقراطية. لقد عايش السقاف هذا الزخم منذ تباشيره المبكرة، وشارك في صنعه، وعاصر رجالاته المستنيرين، وتعهد معهم شجرته المباركة بالغرس والعرق. كان ذلك عهد عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني وحمد الرجيب وأحمد السقاف وآخرين يحملون الإيمان ذاته والملامح نفسها، وكان عهد رجال لا يتكررون!

زخم سياسي

وكما كانت المرحلة مرحلة تغيّر ومخاض على الصعيد المحلي، كانت كذلك مرحلة زخم سياسي ومدّ قومي على الصعيد العربي. ولم يكن مستغرباً أن تتعلق قلوب أولئك الطليعيين من أمثال أحمد السقاف بفكرة القومية العربية، أو أن تجد لها وشيجة بالغة الغور في وجدانه، وهو الذي شبّ على الدفاع عن هوية الإنسان العربي وكرامته ومكتسباته منذ شبابه الباكر متمثلاً في اشتراكه الفاعل في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م، أو انخراطه في أنشطة تنظيمية وصحفية أخرى غايتها التوعية بفكرة القومية العربية والترويج لها كعقيدة سياسية عصرئذ أي منذ الأربعينيات وقبل ثورة يوليو 1952م وبزوغ نجم جمال عبدالناصر. ولعل هذه الفورة السياسية على الصعيد العربي والتي وجدت لها أصداء واستجابة في بلد مثل الكويت حينذاك، قد حققت لهذا البلد الصغير فرصة التفاعل مع محيطه العربي، وفرصة الانفتاح على مستجدات الحياة السياسية، وأعدته لأدوار أكثر فاعلية بعد الاستقلال.

في ظل هذه الظروف الاجتماعية والسياسية محلياً وعربياً كانت تتشكل حياة أحمد السقاف العملية والفكرية والإبداعية. فعلى الصعيد العملي كانت فرص الوظائف القيادية مواتية وسانحة أمام شخص بمثل حضوره والتزامه وتفانيه، وبمثل دبلوماسيته وشدة تأثيره وثقته بنفسه. يبدو كل ذلك جلياً في حياته العملية الثرية التي لم تكن حياة استقرار ودعة بقدر ما كانت حياة تنقل وترحال ومجاهدة. ولعل أحمد السقاف وجد نفسه في هذا النمط من الحياة العملية الدائبة الحركة، وخاصة أثناء فترة عمله في 'الهيئة العامة للخليج والجنوب العربي'، التي أمضى فيها أكثر فترات حياته خصوبة وعطاءً، وتحدث عنها بكثير من الإخلاص والحب في مؤلفاته. يقيناً أن السقاف وجد نفسه في هذا النمط من الحياة العملية، لأنه لم يكن موظفاً يخدم في وظيفة حكومية فقط، وإنما كان في موقعه ذاك جماعاً وخلاصة للسياسي والدبلوماسي والعروبي القومي والأديب المبدع والإنسان، وكان يتعامل بهذا الحسّ العام الشامل مع مفردات حياته ومحيطه. فبقدر قربه من الكبار وأصحاب القرار كان قريباً أيضاً من أضعف طفل في قرية منسية في اليمن أو عُمان أو الفجيرة. وكما كان يجلس إلى مائدة رئيس أو وزير كان لا يمانع أن يتبلّغ بكسرة خبز وجرعة ماء في رحلة صحراوية شاقة تنقطع فيها السبل. وبقدر ما كان متفانياً في خدمة مجتمعه الصغير كان حفياً أيضاً بوطن أكبر وهمّ باتساع خريطة تمتد من المحيط إلى الخليج.

ولا شك أن هذا الثراء في حياته العملية والوظيفية كان عاملاً مهماً في استطالة غصونه الفكرية والإبداعية وإمدادها بالأنساغ حتى غدت دوحة من الظل والثمر مختلفة ألوانها وطعومها. أما الفكر فقد امتد في رافدين مهمين يسِمان السقاف بميسمهما المميز، أولهما العروبة والقومية، وله في هذا المجال مؤلفات مثل: 'أحاديث في العروبة والقومية' و'العنصرية الصهيونية في التوراة' و'أنا عائد من جنوب الجزيرة العربية' و'حكايات من الوطن العربي الكبير' و'صيف الغدر'. أما ثانيهما فهو العناية بأدب التراث والاحتفاء بمظاهره وشواهده وشخصياته، وله في هذا المجال مؤلفات مثل: 'المقتضب في لغة العرب' و'قطوف دانية عن عشرين شاعراً جاهلياً' و'الأوراق في الديارات النصرانية' و'الطرف في المُلح والنوادر والأشعار' وغيرها.

أما الإبداع فقد تجلى في الشعر الذي أتاه طيّعاً دافقاً منذ يفاعته الباكرة، فجاءت شاعريته جزلة مطبوعة يزيد من تلقائيتها اهتمام الرجل بمجريات عصره وأحداث مجتمعه وانكفاؤه على قلب متفجّر بالعاطفة والشجن الجميل. ولعل مَن يلمح اهتمام السقاف بأدب التراث يظنه تقليدياً في شعره، جامداً عند قوالبه وتفاعيله المقننة، والحقيقة أن هذا الشاعر الذي مثل مرحلة تأسيسية مهمة في تاريخ أدب المنطقة لديه من المرونة والتجدد ما تؤكده نزعته الواضحة نحو التجريب والتلوين سواء ما تعلق منها بموسيقى الشعر التي زاوج فيها بين العمودي وشعر التفعيلة، أو ما تعلق بفن التصوير والخيال الذي غدا في نصوصه المتأخرة أكثر قرباً من روح العصر وأصدق تمثيلاً للمشهد الثقافي العام.

تلك شذرات من حياة أحمد السقاف الثرية وسيرته العطرة، نسجلها احتفاءً بإنسانيته وعطائه وتذكراً لبصمته وإنجازاته، مجتهدين أن نطل من خلالها على تلك الدوحة الغناّء، وما اكتنفها من أفياء ومسارب وأعشاش وأصداء، عرفاناً بفضل هذا الرجل وتقديراً لمسيرته الخضراء الحافلة.

رحمه الله رحمةً واسعة، وأناله جنته ورضوانه.

محطات من حياته

قضية التنوير

أحمد السقّاف مهموم دائماً بقضية التنوير. أنشأ يوم كان مدرّساً في المدرسة الشرقية عام 1945 ندوة أدبية في منزله، ثم صارت الندوة متنقلة تعقد مساء كل خميس في ديوانية أحد الفضلاء، حتى توقفت صيف 1946. وفي 1948 أنشأ أول مجلة أدبية ثقافية عامة تصدر وتطبع في الكويت مع المرحوم عبدالحميد الصانع، هي مجلة laquo;كاظمةraquo; التي توقفت عام 1949 لأسباب خارجة عن إرادته وعين ناظراً للمدرسة الشرقية بضع سنين عرف خلالها بالحزم. في خريف عام 1956 نقلت خدماته إلى دائرة المطبوعات والنشر فأشرف على مطابع الحكومة ودرّب عدداً من الشباب الكويتيين. وفي ديسمبر1957 كلفه الشيخ صباح الأحمد رئيس دائرة المطبوعات يومذاك بالسفر إلى بعض الأقطارالعربية للتعاقد مع من يقع عليهم اختياره لإصدار مجلة ثقافية ضخمة فتعاقد في مصر مع الدكتورأحمد زكي وبعض المحررين والفنيين وقدموا في مطلع 1958 وصدرت مجلة laquo;العربيraquo; في العام ذاته.

يذكر أن طبع مجلة laquo;العربيraquo; أوجب تطويرالمطبعة. كان لا بدّ من إمكانات كبيرة لطباعة المجلة الضخمة فأصدر رئيس الوزراء الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح تكليفه لأحمد السقاف السفر إلى ألمانيا لحضور معرض الطباعة في laquo; دسلدورفraquo; في مطلع مايو 1958 فغادر السقاف إلى ألمانيا يرافقه خبير الطباعة السيد بيبوس وعاد من المهمة بكل ما تحتاج اليه المطبعة. أما النقلة الممتازة والرائعة في الوقت ذاته فهي مفاجأة الشباب الكويتي بتعيينهم رؤساء أقسام في المطبعة وتعيين إدارة جديدة للمطبعة من هؤلاء الشباب وكانوا مبتهجين في مواقعهم الجديدة. عني الشاعرأحمد السقاف كذلك بطبع المخطوطات القيمة، بالتعاون مع معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية. ومن أهم ما أنجز المعجم الضخم laquo;تاج العروسraquo; وحين توقف طبع هذا المعجم اتصل السقاف بمن حل مكانه في وزارة الإرشاد والأنباء سعدون الجاسم وعملا معاً على الطباعة حتى أنجز المشروع.

طريق الدبلوماسية

بعد مساهماته المتعددة في التنوير والثقافة انتقل شاعرنا إلى الدبلوماسية وميدان العمل السياسي فعين عام 1962 وكيلاً لوزارة الإرشاد والأنباء (الإعلام حالياً) وفي 1965 نقلت خدماته إلى الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي بدرجة سفير وهي هيئة مستقلة مرتبطة بوزير الخارجية، مهمتها بناء المدارس والمستشفيات والمستوصفات والكليات في اليمنين الشمالي والجنوبي (قبل الوحدة) وفي الإمارات ايضاً قبل أن تتحد وكانت الهيئة معنية بالبحرين وجنوب السودان أيضاً وكانت إنجازاته في هذه البلدان محل إعجاب وتقدير من حكوماتها وشعوبها. بذلك يكون السقاف أحد الشهود على النهضة الثقافية في الكويت وأبرز مؤسسيها. وهو عضو رابطة الأدباء وكان أمينها العام حتى ربيع 1984 وتولّى رئاسة وفدها إلى المؤتمرات الأدبية لمدة تزيد على عشر سنين. قبل ذلك انخرط في سلك التعليم وعين عام 1944 مدرساً للغة العربية في مدرسة المباركية ثم انتقل إلى المدرسة الشرقية وعين ناظراً لها صيف 1950.

من مؤلفاته

1 - laquo;شعر أحمد السقافraquo;، وهو ديوان يضم أشعاره حتى مطلع 1989م

2 - laquo;من شعر أحمد السقافraquo;، الطبعة الأولى 2001

3 - laquo;المقتضب في معرفة لغة العربraquo;، طبعة ثالثة 1990

4 - laquo;أنا عائد من جنوب الجزيرة العربيةraquo;، طبعة رابعة 1985

5 - laquo;الأوراقraquo;، كتاب يبحث في أشهر ديارات العراق والشعراء الذين كانوا يتطرحون فيها، شركة الربيعان للنشر طبعة ثالثة 1982

6 - laquo;تطور الوعي القومي في الكويتraquo;، رابطة الأدباء 1982

7 - laquo;حكايات من الوطن العربي الكبيرraquo; طبعة ثالثة 1995

8 - laquo;العنصرية الصهيونية في التوراةraquo;، شركة الربيعان 1984

9 - laquo;قطوف دانية، عشرون شاعراً جاهلياً ومخضرماraquo;ً، دار قرطاس 1995

10 - laquo;أحلى القطوف، عشرون شاعراً أموياً ومخضرماraquo;،ً 1996

11 - الطرف في الملح والنوادر والأخبار والأشعار 1996

12 - laquo;أحاديث في العروبة والقوميةraquo;، 1997

13 - laquo;أغلى القطوف، عشرون شاعراً عباسياًraquo;، 2000

14 - laquo;أحمد السقاف في مقالاته ومقابلاتهraquo;