عبد الوهاب بدرخان

لم يتوقع توني بلير quot;الكابوسquot; الذي حل في العراق غداة الغزو والاحتلال. لكنه بعد كل ما حصل، لا يزال يعتقد أن قرار الذهاب إلى الحرب كان صائباً مئة في المئة. ومع صدور مذكراته بعنوان quot;الرحلةquot; انتظره المعجبون والكارهون لعله يعترف أخيراً بالخطأ، لعله يقدم تحليلاً نقديّاً، على الأقل، للأخطاء التي فتكت بالأهداف quot;النبيلةquot; للحرب، فلم يفعل، حتى أنه، على رغم رميه مسؤولية الإخفاقات الداخلية على خلفه غوردون براون، رغب أيضاً في أن يحمِّله تبعة المغامرة العراقية البائسة.

رجل دولة ناجح، سياسي ماهر، مثير للجدل، لكنه مثير للشكوك أيضاً، خصوصاً بشأن النمط الذي يمثله ويدافع عنه من الأخلاقية أو اللاأخلاقية السياسية. لا يزال ناقدوه في حيرة، ومذكراته لم تكن اعترافات، لذا عدّها أحدهم أشبه بمذكرة موجهة إلى الطاقم الذي يعمل معه. ولعل مصدر الحيرة يأتي تحديداً من خيبة الأمل التي أشاعها هذا الرجل الذي بدا ملهماً لجيله، وعقدت عليه رهانات مستقبلية بالغة الطموح. فبعدما شكل مع الأميرة ديانا ثنائيّاً مبهراً لبريطانيا الشباب، شكلاً ومضموناً، أضحى رمزاً فاقعاً للانتهازية المكشوفة والمتهورة.

لم يكن متوقعاً أن يقدم بلير جديداً في شأن أفغانستان التي لا يلام عمليّاً على المشاركة في حربها، إذ أنها استقطبت تحالفاً دوليّاً واسعاً. لكن بلير اجتهد ليكون لبريطانيا دور قيادي بارز فيها إلى جانب الولايات المتحدة. أما بالنسبة إلى العراق فهو مدرك أن هناك هيئة تحقيق لا تزال تعمل، ولذلك كرر ما قاله مئات المرات حتى أصبح ممجوجاً، فالرأي العام البريطاني (والدولي) بلور قناعات مناقضة تماماً للرؤية البليرية، وإنما أسبغ ثوباً quot;ربانيّاًquot; كما فعل شريكه جورج دبليو يوش على قراره الذهاب إلى تلك الحرب، فإنه أمعن في استفزاز الناس.

كان بوش أنجز قبيل نهاية ولايته اتفاقاً مع الحكومة العراقية يمهد للانسحاب، وبالتالي ضمن استمرار الحصانة له بعد مغادرة البيت الأبيض، وفقاً لتقاليد مؤسسة الحكم الأميركية. وفي المقابل، كان جوردون براون من رتّب الانسحاب البريطاني وسط استياء أميركي، لكن من دون أي معارضة داخلية، ولا حتى من quot;المحافظينquot;. قد تختلف مذكرات بوش، متى تصدر، عن نهج بلير في عرض المسألة العراقية. لاشك أنهما اتفقا على الدوافع والأهداف وخطط العمل لكنهما سيفترقان في النظرة من خارج الحكم. فالرئيس الأميركي السابق سيدافع عن نفسه طبعاً، لكنه على عكس بلير لن يبحث عن استثارة الرأي العام ولا يريد إغراق أو إحراق حزبه وفريقه وعائلته أكثر مما فعل. أما رئيس الوزراء البريطاني السابق فيبحث عن الثأر من حزبه، بل يريد معاقبته على دفعه إلى التخلي عن الزعامة، وفي مذكراته لم يشأ أن يقدم تحليلاً سياسيّاً مفيداً لهزيمة حزب quot;العمالquot; وخروجه من الحكم بل استغل هذه الهزيمة لتعميق الانقسامات، فهو يعلم أنه لا أمل له في العودة إلى الزعامة، ولا إلى أي دور بارز في بريطانيا.

خرج بلير من الحكم وهو في أوج حيويته، ضامناً من اللحظة الأولى أن بوش -وإسرائيل- استوظفاه quot;مبعوثاً للهيئة الرباعيةquot;. فقبل فترة قصيرة كانت هذه المهمة قد شغرت بانسحاب جيمس ولفنسون، المدير السابق للبنك الدولي، الذي أدرك أولاً أنه دُفع إلى موقف لاأخلاقي يضطره لقبول المعاملة الظالمة للفلسطينيين، وأدرك ثانيّاً، أنه دعي إلى عمل يتطلب جهورية سياسية وحتى أيديولوجية لا تتوفر لديه، فالمهمة لا تتعلق بأي quot;عملية سلامquot; وإنما بتسهيل تطبيق السياسات الأميركية-الإسرائيلية باسم quot;الرباعيةquot;! إذن، فهي مهمة لا تليق إلا بشخصية مثل بلير، الذي كان عمليّاً أقرب إلى ديك تشيني منه حتى إلى بوش. ويستدل من بعض فقرات quot;الرحلةquot; أن بلير كان يشاطر جماعة اليمين المحافظ نظرتهم إلى الإسلام ونياتهم لتغيير الأنظمة بالقوة وافتعال الحروب الأهلية حيثما لا تستطيع الدبلوماسية أن تبني تغييراً سلميّاً.

لم يبارح بلير عمليّاً هذا الموقع quot;الأيديولوجيquot;. حاول أن يمده إلى منصب رئاسة الاتحاد الأوروبي، الذي ترشح له لكن الأوروبيين استبعدوه تحديداً بسبب طبعه الموتور وأفكاره المسبقة حمّالة الأوجه والاشكالات. لذا بقي في quot;الرباعيةquot;، سيئة السمعة دوليّاً، ليدير الربط بين عملية سلام ملغومة في الشرق الأوسط وبين حرب على إيران لم يفوّت فرصة صدور مذكراته للترويج لها.