نسرين مراد

منذ بداية القرن العشرين، شهدت الساحة العربية الشعبية انتفاضات متنوعة، تكثفت في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. هنالك انتفاضتان فلسطينيتان رئيسيتان، إلى جانب عدد لا حصر له من الانتفاضات الجانبية والفرعية والهامشية. هذه جميعاً لم تحقق الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني. السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى عجز القيادات الفلسطينية عن تسيير دفة الأمور واستغلال القدرات الشعبية الهائلة المتاحة، لصالح القضية الفلسطينية. بالذات أدى تسلسل الأحداث إلى تكوين كيان سياسي إداري، عالة على الغير في كل شيء.

في الدول العربية حدثت انتفاضات عدة، منها السرية التي لم تصل أخبارها إلى وسائل الإعلام، ومنها ما تسرب إلى وسائل الإعلام رغماً عن الاحترازات الأمنية المشددة والتعتيم الإعلامي الشامل. عادة ما تُسحق تلك الاحتجاجات بأقصى وحشية ممكنة، ويُرسَل القائمون بها وعليها ليواجهوا مصائر laquo;معلومة مجهولةraquo;؛ تتلخص في الموت أو السجن، أو النفي القسري أو الاختياري.

هنالك انتفاضات laquo;أرغفة الخبزraquo; العارمة في معظم الدول العربية. هذه الدول قادتها أنظمتها السياسية والإدارية المحلية laquo;الفاسدةraquo;، والتدخلات الخارجية، إلى الاعتماد شبه المطلق على مساعدات وواردات الغذاء الخارجية. استُخدمت شرطة مكافحة الشغب الخاصة، من ذوي التدريب الخاص المتميز، للإجهاز على laquo;مثيري أعمال الشغبraquo;، وإنهاء انتفاضاتهم بأقصى سرعة وسرية ممكنة. هنالك انتفاضات مصغرة هنا وهناك، وهذه عادة ما تحدث في السجون. الأسباب كثيرة، منها تنامي الاضطهاد، وتنوّع وتشديد طرق التعذيب والتنكيل. الاكتظاظ وسوء المعاملة ونقص، بل انعدام الخدمات الأساس في تلك السجون، أدت بالبعض إلى اقتحام laquo;جدران الموتraquo;، عبر التعرض لرجال الأمن المدججين بالسلاح الذين يديرون شؤون السجون. ثمة انتفاضات أخرى حدثت في المؤسسات التعليمية العالية، بسبب تنامي نسبة الوعي عند المتعلمين. هذا ما حدا بالبعض إلى إعلان التمرد والانتفاض في وجه هيكل السلطة الرسمية، المعروف بقسوته وجبروته.

أخيرة، وليست آخرة، انتفاضات الشعوب العربية العارمة في الزمن الحالي، هي انتفاضة الشعب التونسي الأبي. باتت معروفةً للعالم مجموعة الأسباب التي حدت بالشعب التونسي لإعلان التمرد العام على السلطة laquo;المنتخبة من خلال صناديق الاقتراع!raquo;.

كغيرها من الانتفاضات العربية والدولية عبر التاريخ، فلقد شكّل خليط laquo;الفساد والتسلط والإقصاء والفقر والجوع والاضطهاد والتنكيلraquo;، العمود الفقري لإعلان انتفاضةٍ اجتماعيةٍ عارمةٍ.

الانتفاضة أو الثورة التونسية، تواجه بدورها مصيراً مجهولاً. الأسباب كثيرة، ومنها عدم وجود قيادة مركزية متكاملة، موثوق بها شعبياً. قيادة حكيمة ناضجة، تلتحم مع الجماهير الثائرة، وتري الأخيرة طريقها نحو النصر النهائي.

تتوزع القيادات الحالية العشوائية المتباينة، بين الداخل والخارج. غالبية هذه القيادات انتفاعية انتهازية، تهوى الحصول على مراكز ومناصب في laquo;العهد التونسي القادم المرتقبraquo;. قيادات جديدة، مزيج من داخل النظام السياسي السابق وأخرى من خارج الأوطان، تأثرت الأخيرة بثقافات دول المهجر، بعد أن مكثت فيها عقوداً. منذ بداية البداية يتسابق هؤلاء القادة الجدد، بل المخضرمون، لشغل مناصب رؤساء الدولة والوزارة، وحقائب الوزراء، ومقاعد مجلس النواب.

سبب آخر ثمة مهم في جعل مصير الانتفاضة التونسية مجهولاً، هو عجز الشعوب العربية الأخرى المكبّلة، عن تقديم يد العون الحقيقي لشقيقتها التونسية. ذلك ما يجعل التونسيين يشعرون باليتم والعزلة، والخذلان من قبل الشعوب الأخرى، خاصة المجاورة منها.

منذ خروج جنين الانتفاضة التونسية، باتت تونس محاطة بنظامين سياسيين معاديين لطموحات التونسيين الثورية. أحدهما يخاف من انتقال عدوى الانتفاضة التونسية إلى مرابع شعبه، والثاني لا يرى ضرورة لحدوث انتفاضة هي أقرب إلى أعمال فوضوية متسرعة طائشة!

العالم الخارجي، وبالذات الغربي، لا يقل شؤماً على حركات الشعوب الثورية. لا تزال الدول الغربية متمسكة بإرثها الثقافي الاستعماري، وأنفاسها ونظراتها الإمبريالية تجاه الشعوب الضعيفة؛ هذا وإن بدت إعلامياً عكس ذلك. لا تريد أن ترى فاتحة لجسم عربي حقيقي، ينهض من بين ركام المؤامرات وحملات التصفية والقمع والتهميش والتنكيل. تريد هذه الدول إبقاء المارد العربي على حاله، نائماً أو في حالة غيبوبة أو شلل أو موت سريري. في كل هذا وذاك، مكتوب على شعوب الانتفاضات العربية المتتالية أن تحسب، وتظل تعيد الحسابات