سركيس نعوم

بدأ الأميركيون، وبعد أيام على خروج ثوار مصر من الشارع في اعقاب نجاحهم في اسقاط رئيسهم حسني مبارك، وفي حلحلة نظامه وفي اطلاق ورشة اصلاحية حقيقية سياسياً وامنياً واجتماعياً واقتصادياً، بدأوا درس الوضع المصري وتحليله في السنوات الأخيرة وذلك لمعرفة أسباب الثورة الشعبية الساحقة، وتالياً لمحاولة مساعدة quot;مصر الجديدةquot; على ارساء أسس نظام جديد، أو على الأقل وضع جديد يحظى برضى الناس فيعطونه فرصة للعمل.
طبعاً توصَّل هؤلاء الى استنتاجات معظمها صار معروفاً، او كان معروفاً لديهم كما لدى غالبية المجتمع الدولي، لكنه لم يدفع احداً داخل هذا المجتمع الى تنبيه quot;فرعونquot; مصر حسني مبارك الى ما قد يواجهه وما قد تواجهه معه البلاد في حال استمر جاهلاً أو متجاهلاً معاناة الناس وتردي الأوضاع الخاصة والعامة. من ابرز الاستنتاجات سيادة الفساد في كل القطاع العام في الدولة وهو كبير جدا. وتحكّم الفاسدين في عمليات الانتقال من القطاع العام الى القطاع الخاص التي حصلت ايام مبارك الرئيس، وقد زادت عن 10950 يوماً. ومن ابرزها ايضاً، رزوح نحو 40 في المئة من شعب مصر تحت خط الفقر المدقع. ومن ابرزها ثالثاً ديكتاتورية الأمن والدولة والأجهزة، بل ديكتاتورية مبارك وحزبه ونجله جمال التي زوّرت الانتخابات العامة في كل الدورات الانتخابية، والتي بلغت القمة اثناء تزوير الانتخابات الاخيرة. ومن أبرزها رابعاً غياب المحاسبة والمساءلة والحرية الفعلية، أو بكلمة واحدة غياب الديموقراطية في ظل دستور فُصِّل على قياس نظام وشخص في حين يُكتب الدستور عادة للدول والشعوب.
في اختصار توصَّل الاميركيون المعنيون والمتابعون الى خلاصة مهمة جداً، ولا ينتقص من اهميتها كونها معروفة من الكثيرين، تفيد أن فقدان الرئيس (السابق) مبارك احساسه بالشعب وانعدام تواصله معه وتحوّله جراء تقدمه في السن ومرضه أسير محيطه الضيق الذي وضع يده على السلطة عملياً ومارسها نيابة عنه. وتوصلوا الى خلاصة اخرى لا تقل أهمية، تفيد أن احتمالات بقاء مبارك في الرئاسة لم تكن قليلة لو استجاب، وبعد ايام قليلة من تحرك الشعب ضده، الى مطالبه وبادر الى تنفيذ بعضها في سرعة. وتوصلوا الى خلاصة ثالثة تفيد أن الجيش المصري، والمقصود هنا قيادته أو ما عرف الناس بعد نجاح الثورة الشعبية اسمه وهو quot;المجلس الاعلى للقوات المسلحة المصريةquot;، حاول ومنذ البداية اقناع مبارك بالتجاوب وذلك اعتقاداً منه ان ذلك قد ينجّيه من السقوط. وتفيد ايضاً أن هذا الجيش بذل كل ما يستطيع لمساعدته، ولكنه وجد نفسه في النهاية مضطراً، وفي ما يشبه الانقلاب، الى مرافقته اثناء خروجه من السلطة مع تقديم كل اللياقات له وابداء كل الاحترام. وتفيد ثالثاً أن الجيش تفادى quot;بدعوة الرئيس الى الخروج من السلطةquot;، وإن في صورة غير رسمية وغير علنية، انشقاقاً في صفوفه. فالقيادات العسكرية ذات الرتب العالية، كما ان وحدات النخبة في الجيش المصري كانت مع مبارك. لكن عندما بدأت علامات الانشقاق والتصدّع تظهر في الصفوف العسكرية وفي مختلف الرتب لم يعد امام القيادة العسكرية العليا الا خيار واحد، وهو الاستجابة السريعة لمطالب الشعب الثائر وفي مقدمها اخراج مبارك من السلطة والرئاسة والحكم. وقد مارستها. ويبدو استناداً الى معلومات عدة وردت من واشنطن ان تشاوراً في هذا الموضوع دار بين القيادة العليا للقوات المسلحة المصرية وبين قيادة الجيش الاميركي ووزارة الدفاع الاميركية المعروفة بـquot;البنتاغونquot;، وكان رأي الاخيرة مشابهاً لرأي المصريين، فكان التنفيذ السريع. علماً ان التشاور بين المؤسستين لم يتوقف لحظة منذ نشوب ثورة شعب مصر. ولعل ما دفع القيادة عند الاثنين الى التحرك كان تأكدهما ان انتشار الجيش في الشارع ليس ايجابياً، وخصوصاً اذا طال، وان عناصر هذا الجيش، كما اصحاب الرتب الصغيرة فيه ستنضم الى الشعب الثائر فيما لو أعطت لهم قيادتهم اوامر باطلاق النار على الثوار، بل بقمع ثورتهم بالقوة المسلحة.
هل يقلق مستقبل الاوضاع في مصر الاميركيين المعنيين اياهم؟
جواب هؤلاء يفيد ان سيطرة الجيش على مصر لا تقلقهم. ذلك أنه لا يستطيع ان يفرض نظاماً عسكرياً (ديكتاتورياً) جديداً عليها، لأن الشعب الثائر الذي قطع علاقته مع الخوف سيعود الى الشارع، دفاعاً عن ثورته واصراراً على تحقيق اهدافها ورفضاً لاستنساخ نظام مبارك، وإن بوجوه جديدة ndash; قديمة. وثانياً لأن الجيش المصري سيواجه حال انشقاق جدية بل خطيرة. لكن ما يقلق هؤلاء الاميركيين، هو الانتخابات المبكرة التشريعية والرئاسية التي ستجريها السلطة الحاكمة اليوم، اي quot;المجلس الاعلى للقوات المسلحة المصريةquot;، خلال مدة اقصاها ستة اشهر بعد تعديل الدستور والغاء قانون الطوارىء وتنفيذ اصلاحات جديدة. وهو ما وعدت به شعب مصر، وهو ما اقنعه وإن على مضض بالخروج من الشارع والعودة الى العمل والبيوت ولكن مع استمرار مراقبة تنفيذ الوعود المقطوعة.
ويعود القلق المذكور هذا الى عوامل اربعة. اولها، غياب الاحزاب الشعبية الجدية عن مصر جراء حكم نظام بدأ قبل عقود باستثناء حركة quot;الاخوان المسلمينquot; التي تسعى الى التحول حزباً والتي تمتلك كل مقومات الحزب، وquot;حزب الوفدquot; العريق ولكن الضعيف في الوقت نفسه. وثانيها، غياب الايديولوجيات والبرامج السياسية الجدية التي يمكن أن تجمع فئات مهمة من الشعب المصري حولها. وهذا يعني ان الناخب المصري وإن لم يكن من quot;الاخوانquot; قد يصوّت لمرشحهم بسبب غياب مرشحين جديين واحزاب جدية. وثالثها، غياب شخصيات قيادية معروفة قادرة على جمع الجماهير حولها رغم غياب البرامج الحزبية والايديولوجيات. اما رابع العوامل، فهو اقدام المؤسسة العسكرية المصرية على الامساك بالوضع في بلادها في ظل سيطرة quot;الاخوانquot; على السياسة المصرية بواسطة الانتخابات الحرة والنزيهة، او على الاقل القيام بكل ما يستطيعون لتلافي quot;الاستئثار الاخوانيquot; بالسلطة. وهذا الأمر خطير لأن احداً لا يمكن التكهن بانعكاساته فضلاً عن انه سيكون كالسباحة في بحر بل في محيط مجهولة احواله بكل تفاصيلها.
في اختصار يعرف الأميركيون المتابعون والمعنيون انفسهم ان المنطقة كلها تغلي، وان الحكام العرب يشعرون بقلق كبير بعد الذي حصل في مصر، وبدأوا يعترفون ضمناً على الأقل ان quot;لا احد منهم فوق رأسه خيمةquot; كما يقال. فضلاً عن ان معظمهم انكفأ الى الداخل في محاولة لتثبيت الاستقرار داخل بلدانه. وهذا الامر قد يفيد، لكنه قد يضرّ اذا بدا كأنه quot;رشوةquot; مباشرة من الحاكم للمحكوم الذي يشعر بالظلم.