فواز الشروقي

حينما ينهى شيخ الأزهر المتظاهرين عن الخروج فلا يستجيبون له، وحينما يعلن البابا شنودة وقوفه مع الرئيس حسني مبارك فلا يُحدث موقفه أثراً في جموع الأقباط المتجمّعين في ميدان التحرير، فما الذي يعنيه هذا الأمر؟ هل هو دلالة على انخفاض في درجة التديّن عند شباب مصر من المسلمين والأقباط؟ أم هو دلالة على ارتفاع درجة الوعي لديهم بحيث أصبحوا يفرّقون بين الشأن الديني والشأن السياسي؟
فخلال الثورة الأخيرة كرّر الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر نداءه إلى جموع المتظاهرين بضرورة العودة إلى بيوتهم وتهدئة الأوضاع واصفاً من laquo;يغمس يده في الأحداث الجارية بأنّه ليس في قلبه مثقال ذرّة من دينraquo;. وفي الجهة المقابلة أطلق البابا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية نداءاته للأقباط المصريين المتظاهرين لفضّ الاعتصامات معلناً تأييده المطلق للرئيس مبارك، ولكنّ جموع المتظاهرين من المسلمين والأقباط لم تمتثل لأوامر المرجعين الدينيين وواصلت تظاهرها إلى أن تمّت الاستجابة لكلّ طلباتهم.
والملفت أنّ عدم الاستجابة للمرجعين الكبيرين تأتي في الوقت الذي تشهد فيه مصر تنامياً للمدّ الديني، ومن زار مصر خلال السنوات الماضية قد لاحظ بكلّ تأكيد مقدار التغيّر الذي طرأ على المصريين في الهيئة والملبس، فالميادين تعجّ بالنساء المحجبات وبالرجال الملتحين، والمساجد والكنائس تمتلئ عن آخرها بالمصلين، فالبعض يعتبر ذلك مؤشّراً لعودة الشباب إلى الدين، والبعض الآخر ndash; كالروائي علاء الأسواني ndash; يعتبرها حالة قنوط جماعي متلبّسة بلبوس ديني.
فإذا كان المصريّون يأتمرون بأمر مراجعهم الدينية بأدقّ أمور الدنيا كحفّ الشارب وإطلاق اللحية، فقد كان منتظراً منهم أن ينصاعوا إلى دعوات مراجعهم لترك ساحة ميدان التحرير والعودة إلى البيوت، على اعتبار أنّ laquo;العلماء ورثة الأنبياءraquo; وأنّ الله قد أمر بطاعة أولي الأمر laquo;الذين هم علماء المسلمين بحسب بعض التفاسيرraquo;.
ونتيجة لتنامي المدّ الديني كانت التوقعات تشير إلى اتساع هوّة الخلاف بين المسلمين والأقباط وتصاعد الأزمة الطائفية في مصر، ولكنّ الشعب المصري خالف جميع التوقّعات، وها هم الفريقان الذين التحما في مناوشات شرسة بعد أحداث تفجير كنيسة القدّيسين بالإسكندرية، يلتقيان في ميدان التحرير صفّاً واحداً، يحمي القبطي أخاه المسلم من أذى laquo;البلطجيةraquo; أثناء تأديته لصلاة الجمعة، ويحمي المسلم أخاه القبطي أثناء حضوره قدّاس الأحد، من دون أن يتخلّى المؤمن منهم عن معتقداته الدينية ومن دون أن يتنازل عن مواقفه السياسية.
فهل ما حدث في مصر ndash; وهي الدولة الأهم في الوطن العربي ndash; مؤشّر على ارتفاع درجة الوعي إلى الدرجة التي أصبح الشباب يفرّق فيها بين الشأن الديني والشأن السياسي، وصار مستوعباً للعبة الإملاءات السياسية التي يُلبسها الساسة لبوساً دينياً من أجل حمل الجماهير على اعتناقها؟ وهل ما حدث من تلاحم بين الأقباط والمسلمين في ميدان التحرير هو بداية لتطهير الدين من درن السياسة وترسيخ لمبدأ المواطنة الحقّة التي تتسامى فوق الانتماءات الطائفية والإثنية والمذهبية؟
لا أعلم لماذا أستحضر في هذا المقام موقفاً جرى أثناء قيام الأوروبيين بصياغة الدستور الأوروبي الذي يلخّص حضارة أوروبا وقيمها، حيث انبرى بابا الفاتيكان منتقداً خلوّ الدستور من أي إشارة إلى المرجعية المسيحية لأوروبا. ولقد ضغط البابا من أجل تضمين الدستور مادّة تشير إلى مسيحية أوروبا ولكنّ المشرّعين الأوروبيين قد وقفوا سدّاً منيعاً ضدّ رغبات البابا وأرادوا أن يكون الدستور الأوروبي مساوياً لكلّ البشر على اختلاف عقائدهم ومللهم ومنهم المسلمون.
فما جرى في أوروبا سابقاً وما نشهد اليوم إرهاصاته في الدول العربية والإسلامية ليست تحييداً للدين، ولكنّه تحييد لتدخّل رجال الدين في الشأن السياسي وتقسيم الناس إلى فرق وأحزاب متناحرة. فالملايين التي زُهقت أرواحها في الحرب الدينية التي جرت في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت لا نريد أن نشهد لها مثيلاً في البلدان العربية والإسلامية بين المسلمين والمسيحيين أو بين السنّة والشيعة حتى نستوعب خطورة إقحام الدين في السياسة إذا كان بغرض زيادة التشرذم واستحضار الخلافات الماضية وفتح الجروح المضمدة.