يوسف عبدالله مكي

الهدف المعلن دائما من عقد القمم العربية هو الدفع بمسيرة التضامن العربي إلى الأمام، وتعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي بين البلدان العربية، بما يخدم تطلعات شعوبها في النهوض والتقدم والوحدة. ذلك يعني أن عقد هذه المؤتمرات ليس هدفا في حد ذاته، بل غاية ننشد من خلالها تمتين الروابط بين الأشقاء، ومعالجة أسباب الضعف والوهن العربيين.
ذلك يعني أن أول شروط نجاح القمم العربية، هو تمتع العرب قيادات وشعوبا بقدر مقبول من الاستقلالية وحرية الحركة، وألا يكونوا مقيدين باتفاقيات ومواثيق تعيق قدرتهم على صناعة القرار المستقل. وألا تكون التوصيات والقرارات التي تصدر عن القمم العربية رهنا لاستتباع البعض لقوى الهيمنة، دولية كانت أو إقليمية.
وعلى هذا الأساس، يقدر للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، رفضه المعلن للمشاركة في مؤتمر القمة العربية المقرر عقده في العاصمة العراقية بغداد في الشهر القادم، كون العراق لا يزال بلدا محتلا. كما يقدر لدول مجلس التعاون الخليجي مطالبتها لأمين عام جامعة الدول العربية السيد عمرو موسى بإلغاء القمة المقترحة، وإن كان ذلك لأسباب أخرى، تتعلق بالاضطرابات التي تشهدها بعض الأقطار العربية، وموقف الحكومة العراقية منها.
في هذا السياق، يواجه قرار عقد القمة العربية في بغداد جملة من التعقيدات، بعضها تتعلق بمكان انعقاد المؤتمر، والأخرى ترتبط بزمن انعقاده.
فيما يتعلق بالمكان، ينبغي أن يكون الموقف الوطني والقومي والأخلاقي حاضرا في هذه المناقشة. فالعراق، البلد العربي الذي شارك منذ البداية في تأسيس جامعة الدول العربية، وكان له دور فاعل ومؤثر في تنشيط العمل العربي المشترك، قد تم احتلاله واستباحته من قبل الأمريكيين قبل ثماني سنوات. وقد جاء المحتل بالقيادات السياسية الحالية، وميليشياتها من الخارج على ظهور دباباته، أو بدعم منه من شرق العراق. وقام الأمريكيون بهندسة عملية سياسية، هدفت تفتيت وحدة العراق، صيغ بموجبها الدستور واللوائح والهياكل على أساس القسمة الطائفية والاثنية.
لقد جاء التشكيل السياسي quot;للعراق الجديدquot; متماهيا مع الحظر الجوي الذي فرضته إدارة الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون بعد عملية ثعلب الصحراء. والهدف كان دائما تقسيم أرض السواد إلى ثلاث دول: واحدة في الشمال، على أساس إثني تخص الأكراد، وأخرى في الجنوب تخص الشيعة، وترتبط عقديا وأمنيا بإيران، وثالثة سنية تقوم فيما أطلق عليه الأمريكيون بالمثلث السني.
انتقل مشروع التفتيت من التنظير إلى التنفيذ الفعلي بطرح موضوع الفيدرالية، التي جاءت هي الأخرى متماهية مع خارطة الحظر الجوي التي فرضتها إدارة كلينتون، والتي استمرت حتى عام 2003، حين تم احتلال العراق. وبالمثل تمت صياغة دستور العراق، ليتسق مع مفهوم المحاصصات والقسمة، والتنكر لهوية العراق العربية، التي طبعت مسيرته منذ فجر التاريخ، وتعززت وترسخت بعد الفتح الإسلامي لما بين النهرين، في عهد الخليفة الفاروق.
جاء مشروع نائب الرئيس الأمريكي، السيد جوزيف بايدن حول تقسيم العراق، والذي صوت عليه الكونجرس الأمريكي، بقرار غير ملزم، ليؤكد دون لبس نوايا قوى العدوان، في صياغة خارطة جديدة للوطن العربي، تجعل منه كانتونات للطوائف ومناطق للاحتراب والتناحر بين أبناء الوطن الواحد.
إننا إذن أمام جريمة كبرى ارتكبت بحق العراق، وقد مكن الغياب العربي، حكومة إيران من التعاطي مع العملية السياسية، من منطلق التأثير واستثمارها. ليس ذلك فحسب، بل إن القوى الموالية لإيران هي التي اضطلعت بتنفيذ العملية السياسية الأمريكية، بكل تشعباتها. وقد سيطرت في النهاية على مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، ومؤسسات الجيش والأمن، وبقية أجهزة الدولة بما يتجانس مع الصياغة المعلنة للاستراتيجية الأمريكية للقرن الواحد والعشرين.
وهنا نصل إلى مربط الفرس، فمؤتمر القمة العربية، بانعقاده في بغداد سيكون، مع وجود قوات الاحتلال الأمريكي، بمثابة مباركة له، وتأييد للعملية السياسية التي شطرت العراق. وذلك موقف لا يتسق أخلاقيا مع هدف انعقاد القمة. والأنكى، أن من سوف يترأس المؤتمر، بحكم تقاليد الضيافة، سيكون أحد من اضطلعوا بدور مباشر في نحر العراق.
لقد ترسخت فيما مضى تقاليد للقمة العربية، تقضي بأن تضطلع الدولة المضيفة بدور كبير في صياغة القرارات والتوصيات التي تصدر عن القمة العربية. إن معنى ذلك، أن توصيات مؤتمر القمة العربية، إن عقدت في بغداد، ستكون متأثرة حتما بسياسة استتباع الحكومة العراقية المزدوج لواشنطن وطهران، بما يخدم مشاريعهما واستراتيجياتهما في البلدان العربية. وسيكون ذلك اختراقا حقيقيا، غير مقبول وطنيا وقوميا وأخلاقيا، للنظام العربي الرسمي. ولن يشكل انعقاد المؤتمر في هذا المناخ إضافة حقيقية للعمل العربي المشترك، وعلاوة على ذلك، سيعتبر انعقاد المؤتمر في بغداد في هذا الظرف التاريخي، مكافأة لإيران ولحلفائها في العراق، على تدخلاتهم المشينة في قضايا الأمن القومي العربي الجماعي والشؤون الداخلية للبلدان العربية، وهو أمر يرفضه الشرفاء والمخلصون الحريصون على أمن ومستقبل أمتهم.
فيما يتعلق بالتوقيت، فإن الأمة العربية تمر بمرحلة انتقال تاريخي، تتبدل فيه قيادات سياسية وتحل أخرى، في عدد من الأقطار العربية. ولن يكون مفيدا في ظل هذه التحولات المتسارعة، أن يجتمع القادة العرب، وخاصة أن مشروعية عدد منهم أصبحت موضع شك من قبل شعوبهم. لن يمضي وقت طويل حتى تتضح معالم إفرازات الواقع السياسي الجديد. وحينذاك سيكون التوقيت في صالح القمة وقراراتها، بما يخدم إعادة الاعتبار للعمل العربي المشترك، وتحقيق التكامل بين البلدان