عبد الباري عطوان
اذا كانت هناك مؤامرة خارجية لخطف الثورات العربية المطالبة بالتغيير الديمقراطي، او تحويلها عن مسارها، فإن ما يجري في مصر حالياً هو التجسيد الحقيقي لها، ونحن هنا لا نتحدث عن الصدامات الدموية الطائفية التي وقعت امس بين مسلمين ومسيحيين في منطقة امبابة فقط، وانما ايضاً عن العديد من جوانب الثورة المضادة، ومحاولات تغذيتها بكل اسباب القوة، من داخل البلاد وخارجها.
باتت الفتنة الطائفية خطرا يهدد مصر، لانها السلاح الوحيد، والفاعل لتمزيق الوحدة الوطنية، واجهاض الثورة الديمقراطية، واعادة مصر مجدداً الى حظيرة التبعية الامريكية والاسرائيلية، مثلما كان عليه الحال، وربما اسوأ، في عهد النظام المصري المخلوع بزعامة الرئيس محمد حسني مبارك ومافيا رجال الاعمال التي كانت تشكل العمود الفقري لبطانته الفاسدة.
صحيح ان الهدوء عاد الى منطقة امبابة الشعبية التي تعتبر واحدا من الاحياء الاكثر فقراً في العاصمة المصرية، بعد حرق كنيستين وصدامات دموية ادت الى مقتل اثني عشر شخصاً على الاقل، ولكن الصحيح ايضاً ان نار الفتنة ما زالت مشتعلة تحت الرماد وان هناك من سيحاول اشعالها في المستقبل القريب اذا لم يتم التصدي لهؤلاء بحزم وسرعة قبل ان يحققوا اهدافهم الكارثية.
فاستمرار حالة 'الرخاوة' الامنية، وعدم قيام قوات الامن بواجبها الوطني في حماية دور العبادة، وانهاء المواجهات الطائفية قبل ان تستفحل وتتسع دائرتها، هو الذي ادى الى هذا العدد الكبير من الضحايا، القتلى والجرحى في مواجهات هي الاسوأ منذ اكثر من ثلاثين عاماً.
لا يشرف الاسلام، دين التسامح ان يتم حرق كنيستين للاشقاء الاقباط، وبسبب اشاعة مغرضة روج لها بعض انصار الثورة المضادة لتأجيج مشاعر البسطاء ودفعهم الى مثل هذا العمل غير المسبوق منذ دخول العقيدة الاسلامية الى ارض الكنانة.
سيدنا عمر بن الخطاب الخليفة الثاني قدم لنا مثلاً مشرفاً، وقدوة حسنة، في احترام الاشقاء النصارى ومعتقداتهم من خلال عهدته العمرية، وعندما رفض الصلاة داخل كنيسة القيامة في القدس حفاظاً على حرمتها، وحتى لا تتحول صلاته الى سابقة يقتدي بها المسلمون من بعده، اما سيدنا عمرو بن العاص فاتح مصر واميرها فقد اعفى الرهبان المسيحيين واديرتهم من الجزية احتراماً لهم، واجلالاً لعقيدتهم.
' ' '
نجاح الثورة المصرية، وبالاصرار الذي شاهدناه في وعي شباب ميدان التحرير وصمودهم، والتفاف الشعب المصري بكافة طوائفه وفئاته حولهم، شكل صدمة كبرى لكل قوى الردة، وعصابات القمع والفساد، وخفافيش الظلام، وبقايا عهد التبعية، ولهذا بدأوا، وبمجرد الافاقة ولو قليلاً من وقع هذه الصدمة، مؤامراتهم لتقويض الثورة، وسلب انجازها الكبير في تحرير الشعب المصري من عقدة الخوف، واستعادة كرامته وحريته بالتالي، ووضع مصر على الطريق الصحيح كدولة قائدة ورائدة في محيطها الاقليمي والعالمي ايضاً.
الفتنة الطائفية هي الاختراع الابرز للنظام السابق ورجالاته، وهي الورقة الاقوى التي استخدموها لارهاب الشعب المصري، واجباره على عدم الخروج على هذا النظام، خوفاً على الوحدة الوطنية، وتجنباً للانزلاق في جحيم الاضطرابات الداخلية، وبما يؤدي الى فتح المجال، وتوفير الذرائع للتدخل الخارجي وقواه المتربصة.
نحن لا ننسى، بل لا يمكن ان ننسى، كيف 'فبرك' اللواء الحبيب العادلي وزير داخلية النظام السابق الاعتداء الدموي على كنيسة القديسين في الاسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية الماضية، وحاول إلصاق التهمة بجماعة فلسطينية مجهولة، في محاولة يائسة من جانبه لاطالة عمر نظام بدأت اعمدته تهتز، وأساساته تتآكل، بفعل الفساد والقمع وسرقة عرق الفقراء والمحرومين.
نحن لا ننسى، ولا يمكن ان ننسى، كيف لجأ الرئيس المصري الراحل انور السادات، عميد اكاديمية التبعية المصرية للغرب واسرائيل، الى احتضان بعض الجماعات الاسلامية في بداية حكمه، ليس حباً بهم، وايماناً بنهجهم الاسلامي الصحيح، وانما لاستخدامهم كفيلق لضرب الحركات القومية واليسارية، بل ولضرب القوى الوطنية المسيحية التي رفضت قيادتها اصدار فتوى تسمح للاشقاء الاقباط بزيارة القدس المحتلة بعد زيارته المشؤومة لها.
اننا ومثلما ندين مروجي الاشاعات الكاذبة حول احتجاز سيدة قبطية اسلمت داخل كنيسة، وهي اشاعة تبين كذبها، ندين بعض المتطرفين الاقباط الذين تظاهروا امام السفارة الامريكية في القاهرة مطالبين بالتدخل الامريكي لحماية اتباع كنيستهم، فهؤلاء الذين لا يحترمون هويتهم المصرية، وانتماءهم الوطني، لا يمكن ان يمثلوا ملايين الاشقاء الاقباط المعروفين بوطنيتهم، ومشاركتهم العظيمة في بناء مصر الحديثة، وانجاح ثورة 25 يناير جنباً الى جنب مع اشقائهم المسلمين.
' ' '
لقد حان للمتطرفين من الجانبين، الذين يخدمون اجندات خارجية بعلمهم او بدونه، ان يدركوا ان تطرفهم هذا اذا ما استمر او بالاحرى قدر له ان يستمر، هو اقصر الطرق لتدمير بلادهم، وفتح الباب على مصراعيه امام مجازر طائفية، وحمامات دماء تعصفا بأبرز انجاز تحقق في تاريخ مصر الحديث، وهو الثورة الشعبية. فليس هناك اسهل من التحريض على الكراهية وتكفير الآخر، وليس هناك اصعب من تطويق آثار الفتنة التي يمكن ان تترتب على هذا التحريض، واسألوا الاشقاء في لبنان لاستيعاب احد اكثر الدروس دموية في هذا المضمار.
لا يمكن في هذه العجالة نسيان الدور الاسرائيلي في بذر بذور الفتنة في مصر، واشعال فتيل الحرب الاهلية، فإسرائيل هي المتضرر الاكبر من نجاح الثورة، وكم سمعنا المسؤولين الاسرائيليين يتحدثون علناً عن تحول مصر الجديدة مصر الثورة الى عدو استراتيجي، واعادة النظر في عقيدة جيشهم واستعداداته وتسليحه لأخذ هذا التحول في عين الاعتبار.
مصر الثورة أعادت لمصر دورها، وانحازت الى قضايا الحق والعدالة في فلسطين، وانهت مرحلة الاستجداء للمساعدات الخارجية، وأرادت اطلاق المشروع العربي النهضوي على أسس جديدة، ولهذا يحجبون الاستثمارات عنها، ويتآمرون عليها، حتى تعود ذليلة راكعة امام بنيامين نتنياهو وهيلاري كلينتون، وهي لن تفعل ذلك حتماً في ظل ابطال ميدان التحرير بوليصة التأمين الاقوى لحماية الثورة وانجازاتها، وتصحيح مساراتها في كل مرة يحاول البعض حرفها عن طريق الصواب، الطريق الذي حفرته دماء الشهداء وأرواحهم وتضحياتهم الرجولية.
التعليقات