رضوان السيد
عندما كان الملك عبد الله بن عبد العزيز يطلب من النظام السوري إيقاف سفك الدم وتغليب نهج الحكمة أو تحلّ الفوضى والخراب، كان وزير الخارجية الإيراني من طهران، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشورى الإيراني من القاهرة، يعلنان عن استمرار دعم الدولة الإيرانية للنظام في سوريا لأنه مستهدَفٌ، ويطلبان من العرب دفْع المعارضة للدخول في حوارٍ مع الرئيس الأسد فتنتهي الأزمة! وقد أضاف الخليجيون من وجوه الضغط سحب سفراء السعودية والكويت والبحرين، والإعلان - بعد بيان مجلس التعاون الأخير - عن اجتماعٍ قريبٍ لوزراء خارجية المجلس من أجل البحث في الأزمة في سوريا، وما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذُها لحماية الشعب السوري. وقد حدث تصعيد كما هو معروفٌ في الموقف الأميركي، وتحدث الرئيس أوباما مع كلٍ من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا للنظر في تنسيق الإجراءات التي تُشدّد من الضغوط على النظام، لمنْعه من الاستمرار في قتل شعبه. وكان التطور الأهمّ فيما حصل هذا الأُسبوع إلى جانب بيان الملك عبد الله بن عبد العزيز، زيارة وزير الخارجية التركي لسوريا ومحادثاته الطويلة مع الأسد، والتي ما خرج منها بشيء حاسم فيما يبدو، مما سيضطر تركيا للتنسيق مع المجتمع الدولي لإيقاف العنف ضد الشعب السوري من جانب نظامه. أما الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا - وهي الدول التي وقفت مع النظام السوري بمجلس الأمن قبل صدور البيان الرئاسي - فقد أرسلت وفدا إلى laquo;الأصدقاء السوريينraquo; لنصحهم بوقف العنف والدخول في عمليات التحول الديمقراطي!
إنّ هذا كلَّه يعني أنه لم يَعُدْ مع النظام السوري أحدٌ باستثناء طهران، وأتباعها في كلٍّ من العراق ولبنان. والمالكي لا يستطيع أن يخدم بشار كثيرا؛ بسبب المشكلات المتكاثرة عنده في العراق، ولعدم وجود إجماعٍ في البلاد على تمتين الصلات بالنظام السوري في هذه الأوقات بالذات. أمّا في لبنان فهناك موقفان: موقف حزب الله الداعم علنا مثل طهران، وموقف الحكومة اللبنانية، حيث يسعى رئيسها نجيب ميقاتي للتذاكي في ظلّ عدم قدرته على ضبط تصرفاته هو وتصرفات الأطراف المشاركة في الحكومة. فالوزير جبران باسيل يزور الرئيس الأسد دونما تشاوُرٍ مع ميقاتي. ووزير الخارجية اللبناني - وهو من أتباع الرئيس نبيه بري - يطلب من مندوب لبنان في مجلس الأمن أن يُصوِّت ضد البيان الرئاسي من جانب المجلس. وبعد شدٍّ وجذْبٍ أمكن الوصول إلى موقف الامتناع عن التصويت! ثم ذهب وزير الخارجية اللبناني إلى دمشق باستدعاء، وأيد الرئيس الأسد علنا. وعندما حاول خمسون من المثقفين وجمعيات حقوق الإنسان التجمع أمام السفارة السورية في بيروت، تصدت لهم مجموعةٌ من الحزب القومي السوري بالإهانة والضرب، وما تدخلت قوى الأمن لحمايتهم، ولا أظهر رئيس الحكومة انزعاجا من أي نوع. واعتقد أنّ الفرج حلَّ عليه عندما دعا الملك عبد الله بن عبد العزيز السلطة السورية للتحلي بالحكمة أو يحدث الأسوأ، فعلّق ميقاتي بأنّ جلالة الملك كان حكيما، لكنه ما ذكر شيئا عن سفك دم الشعب السوري من جانب حكومته!
هذا هو الموقف الآن فيما يتعلق بالمحيط الإقليمي والدولي. وكما هو واضحٌ فإنّ ما حققته الثورة السورية لهاتين الجهتين غير قليل، وإن لم يصبح شديد التأثير حتى الآن. فقد صار الأميركيون والأوروبيون أكثر تحددا، وخرج العرب عن صمتهم بما في ذلك المصريون، ووجَّه الأتراك للأسد إنذارا أخيرا. بيد أنّ ذلك كله ما دفع الرئيس أو النظام إلى وقف العنف والقتل والاعتقال والتشريد بالداخل السوري، كما أنه ما سار ولو لذرّ الرماد في العيون، في طريق إصلاحاتٍ حقيقية. بل على العكس من ذلك؛ فإنّ ما يجري منذ بداية شهر رمضان، يفيد بأنّ خطةً جديدةً ضد المدن والقرى الثائرة هي قيد التنفيذ. ويقول المراقبون إنّ هذا المسلك العنيف والمستمر في الوقت نفسه في سائر أنحاء البلاد بدءًا من حماه، يشبه إلى حدٍ بعيدٍ ما جرى في إيران ضد الطلاب الثائرين أيام الرئيس خاتمي، وما جرى ويجري من جانب الباسيج والحرس الثوري ضد الإصلاحيين على أثر انتخابات عام 2009. فالعنف يصبح سلوكا عاما ضدّ كلّ متظاهر. والمدن والبلدات تتقطع أوصالها، والمساكن تُنتهكُ حُرُماتُها، والاعتقالات وإطلاق النار معا والنهب والسلب، كُلُّ ذلك يصبح عاما وشاملا وعشوائيا. والسبب المعلن للقيام بكلّ ذلك تتبُّع وقتل المسلَّحين الإرهابيين الذين يروّعون المواطنين ويعتدون على الممتلكات الخاصة والعامة! ولذا ومنذ أكثر من أسبوع يسقط كلَّ يومٍ من المواطنين السوريين - وفي الغالب ليس أثناء التظاهر - ما لا يقلّ عن الخمسين قتيلا، نصفهم (وهذا هو الجديد) من الأطفال والنساء، مما يدل على أنهم ما كانوا في الشارع بالفعل، بل هوجموا في بيوتهم.
والمقصود من وراء ذلك، الترويع الشديد الهائل، وجَعْل خروج المواطنين إلى الشارع مستحيلا أو شبه مستحيل. ويعتقد النظام السوري أنه نجح في سياسته الجديدة نجاحا معقولا. فما عادت المظاهرات الحاشدة تخرج بحماه. أما التظاهرات بحمص ودير الزور وبلدات ريف دمشق ودمشق نفسها، فقد صارت أقلّ حجما وعددا. وقد سارع مراقبون إيرانيون وإسرائيليون، وبعض الغربيين إلى القول إنّ العنف الشديد من جهة (مثلما فعلت طهران)، وعدم قدرة المتظاهرين بالداخل على بلورة قيادات وبدائل، وعدم قدرة المعارضة بالخارج على الاتفاق على برنامج؛ كُلُّ ذلك يمكن أن يُعطي النظام فرصةً لإخماد الثورة أو على الأقلّ للتعايُش معها لمدة طويلة نِسبيا. ويذهب بعض هؤلاء إلى أنّ النظام يمكن أن يصمد اقتصاديا إذا استمرت إيران في مساعدته، وإذا لم يحظر الغربيون عليه تصدير النفط. أمّا من الناحية الشعبية، فوضْع النظام السوري أفضل من وضع النظام اليمني، والذي رغم غياب رئيسه، وانقسام الجيش عليه، وتفكك إداراته، لا يزال يستطيع - بعد سبعة أشهر على التمرد الشعبي - إخراج مظاهرات تأييدٍ منافسة لتظاهرات خصومه.
إنّ ما ذكرناه عن هؤلاء المراقبين هو مجموعة ظواهر واحتمالات. ولا أرى أنّ العنف الشديد يمكن أن يُخمد الثورة بسوريا. بيد أنه يمكن بالفعل أن يُطيل في عُمُر نظام الأسد وشروره وقمعه. فلا بُدَّ من طريقةٍ أو مسار من جانب العرب والدوليين للفرض على النظام المستأسد إخراج قواته الأمنية وفرقه العسكرية من الشارع. وهذا قد يعني الحصار الاقتصادي الشديد، والضغط من جانب مجلس الأمن، وإقفال الحدود من جانب تركيا والأردن. وإذا أمكن تخفيف الأعباء الأمنية عن الشعب السوري بهذه الطريقة، فقد تتخذ الأحداث مساراتٍ أخرى. وأنا لا أعني بها زيادة التظاهُر، بل إمكان أن يبلور الثائرون دون خوفٍ من القتل والاعتقال تصورا وبرنامجا لمرحلة انتقالية. وقد يبادر النظام المشلول اليد الأمنية (بسبب الخوف من التجويع أو التدخل العسكري) إلى التنافُس مع المعارضة السلمية أو التواصُل معها للدخول في التحول والمرحلة الانتقالية معا.
إنّ الذي أراه أنّ تحذير الملك عبد الله بن عبد العزيز من الفوضى والخراب، أمرٌ يدعو للتهيُّب وإعادة النظر، وليس من جانب السلطات السورية للأسف؛ بل من جانب العرب والأتراك. فلتعُد المشاورات التي كان أوغلو قد سار فيها مع مصر والسعودية. وليظلّ الضغط الشديد على النظام السوري مستمرا ومتصاعدا، إذ هي حربٌ يشنُّها هذا النظام على شعبه وحواضره وأطفاله وشبابه:
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتُمُ
وما هو عنها بالحديث المرجَّمِ
التعليقات