صالح سليمان عبدالعظيم


رغم عدم التيقن من النتائج التي سوف تؤول إليها الثورات العربية، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن هذه الثورات قد أحدثت تغييرا ما، ليس فقط ضمن حدودها الجغرافية، لكن أيضا ضمن الواقع الإقليمي العربي، ولا نكون مبالغين إذا قلنا ضمن السياق الكوني الأكثر اتساعا واشتمالا. ومن بين تلك التأثيرات الهائلة للربيع العربي، التأثير على السياسات الأميركية في المنطقة والقضايا المختلفة المرتبطة بها.

وفي سياق صيرورة الثورات العربية، يمكن القول اننا أمام ثلاثة تشكيلات قطرية مرتبطة بها؛ أولها يشمل كلا من مصر وتونس وليبيا، وهي الدول التي نجحت فيها الثورات، رغم أنها لم تصل لنهاية التصورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بثوراتها. وثانيها يشمل كلا من سوريا واليمن، وهما الدولتان اللتان اندلعت فيهما ثورتان ومازالت كل منهما تحاول تنحية أو خلع النظام الحاكم وتغييره.

وأخيرا باقي الدول العربية التي تحاول أن تتكيف مع الأوضاع الراهنة، من خلال طرح بعض الحلول الإصلاحية سياسا واقتصاديا واجتماعيا. إذا، نحن أمام تشكيلات قطرية مختلفة ثوريا، وبالتالي مختلفة في الأطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وطبيعة الرغبة في التغيير والإصلاح.

وبغض النظر عن واقع الربيع العربي الجديد، فإن السياسات الأميركية نحو المنطقة تتحدد من خلال مجموعة من القضايا، تشمل رؤيتها للديمقراطية وكيفية تطبيقها في المنطقة، والبترول والأوضاع في الخليج وأهمية الحفاظ على استقرارها، ومواجهة الإرهاب وكيفية التصدي له، وأخيرا الصراع العربي الإسرائيلي والنتائج المختلفة المرتبطة به.

فخلال القرن العشرين مرورا بالعقد الأول من القرن الحالي، لم تخرج السياسات الأميركية في تعاملها مع دول المنطقة، عن حيز هذه القضايا التي مثلت الإشكاليات الرئيسة، بغض النظر عن بعض الإشكاليات الصغرى التي تفاجئ صانع السياسات الخارجية الأميركية بين فترة وأخرى في المنطقة.

ورغم ثبات هذه القضايا في إطار السياسات الخارجية الأميركية في ما يتعلق بالعالم العربي، فإن هذا لا يعني أن تعاملها مع هذه القضايا كان واحدا وثابتا، بل العكس هو الصحيح. فالسياسات الأميركية اتسمت بالتغير، باختلاف الأقطار العربية وباختلاف الزمن. وحتى بالنظر للقضية المركزية في المنطقة، المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، اتسمت المعالجة الأميركية بالتغير والتنوع، رغم ما يبدو على السطح من ثبات وجمود في الرؤية. وعلينا أن نضع في الاعتبار أن هذا التغير والتنوع، كان دائما في صالح إسرائيل، ومبنيا على تراجع الموقف العربي وتخاذله في التعامل مع الإدارات الأميركية المتعاقبة.

لكن الثورات العربية التي حدثت، قد فاجأت الولايات المتحدة ومراكزها البحثية المختلفة المتعلقة برسم السياسات الخارجية، ومن بينها التعامل مع دول الشرق الأوسط ومواجهة القضايا المختلفة الخاصة بها. وهو أمر ارتبط أيضا بالصعود الهائل للتيارات الإسلامية، من خلال الانتخابات التي جرت في هذه الدول، وعلى رأسها مصر وتونس.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن، وبقوة، يتعلق بالكيفية التي سوف تتعامل بها الولايات المتحدة مع الدول العربية في أعقاب مفاجأة الربيع العربي، وما تلاها من صعود إسلامي قوي يقترب، إن آجلا أو عاجلا، من الهيمنة على شمال إفريقيا بأكمله. فهل سوف تستمر الولايات المتحدة في تعاملاتها البراغماتية مع حكام المنطقة مثلما كان الحال في السابق من أجل تحقيق مصالحها المختلفة؟

وهل سوف تستمر في اتهام الإسلاميين ورميهم بالإرهاب وعدم احترام حقوق الإنسان؟ وهل سوف تقف موقفها المتحيز المعهود من الصراع العربي الإسرائيلي من أجل الحفاظ على عربدة إسرائيل في المنطقة؟.

الواقع أن الولايات المتحدة يجب أن تغير من نظرتها البراغماتية في التعامل مع المنطقة، في ضوء صعود حكومات منتخبة جديدة إلى سدة الحكم، بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية. لا يعني ذلك إلزامها بنظرة مثالية في تعاملها مع دول المنطقة؛ فلا مثالية في اللعبة السياسية القائمة على المنافع والمصالح المتبادلة.

لكن الأمر يتطلب من الإدارة الأميركية الحالية وما يليها، نظرة أكثر عمقا ونفاذا للمنطقة، تتعلق بكون التحقق الديمقراطي والانتقال السلس للسلطة عبر صناديق الانتخاب، يعني على المدى البعيد إمكانية تحقيق مصالح الولايات المتحدة من دون تدخل عسكري وإراقة للدماء.

وعلى أميركا أن تدرك أن مساندتها للأنظمة العربية الديكتاتورية في السابق، لن تنجح الآن في ظل الثورات العربية الراهنة، وما نجم عنها من تغير كبير في نظرة الشعوب لمعنى الحرية واحترام حقوق الإنسان. والأمر الذي لا شك فيه أن الولايات المتحدة يمكنها أن تقنع الكثير من حلفائها في المنطقة بالمكاسب الهائلة التي يمكن أن تنجم عن التحول الديمقراطي السلمي، خصوصا في ظل الصعوبات الهائلة التي لا تساعد على تكرار النموذج العراقي مرة أخرى في المنطقة.

ولا يقف الأمر فقط على الموقف من دعم التحولات الديمقراطية في المنطقة وتشجيعها، لكنه يتعلق أيضا بأهمية وضع الرأي العام العربي في الاعتبار؛ فالمواطن العربي، سواء الذي صنع ثورات الربيع العربي أو سمع عنها أو تمنى أن يكون جزءا منها، يتطلع إلى أن تضعه السياسات الأميركية في اعتبارها، عند اتخاذ أي قرار يتعلق به وبكرامته المهدرة عبر عقود طويلة من الانتهازية الأميركية وتدخلاتها السافرة في المنطقة.