عبدالله المدني

كتبت كثيرا عن بورما ومشاكلها. كتبت عن ديمقراطيتها الوليدة بعد الاستقلال في 1948، وعن سنواتها العجاف تحت حكم الديكتاتور quot;ني وينquot;، وعن قمعية ووحشية الطغمة العسكرية التي قفزت إلى السلطة في 1982 وجمدت نتائج انتخابات 1990 الديمقراطية، وعن quot;أونغ سان سوتشيquot; رمز الديمقراطية وصوت الأمل. وأخيراً كتبت مقالا أشيد فيه بخطوات زعيم البلاد الحالي quot;تين سينquot; الإصلاحية والانفتاحية التي أعقبها الإفراج عن زعيمة المعارضة، والسماح لها بالترشح في الانتخابات، وهو ما لامني عليه البعض من الأشقاء السعوديين من ذوي الأصول البورمية ممن أستوطن أجدادهم الأراضي المقدسة في الحجاز، قائلين إن الزعيم البورمي ليس سوى نسخة من أسلافه المتوحشين، وأن خطواته الإصلاحية غير جادة ومجرد ضحك على الذقون.

ويبدو لي الآن أن quot;تين سينquot; لا يملك كلمة الحسم داخل بلاده، أو أنه مجبر على مراعاة قواعد التوازن داخل أروقة الحكم بدليل أنه لم يتخذ موقفاً شجاعاً من المذابح التي يتعرض لها جزء من شعبه، رغم كل ما قيل عن إنسانيته ورهافة حسه. بل أن موقفه كان متخلفاً كثيراً عن موقف النائبة quot;أونغ سان سوتشيquot; التي شددت على ضرورة أن تكون مسألة الأقليات وحقوقها في ميانمار على سلم أولويات الحكومة المدنية التي تولت السلطة منذ 2011. ومن هذه الأقليات، بطبيعة الحال، الأقلية المعروفة بـquot;الروهانغquot; المسلمين التي وصفها quot;تين سينquot; في بيان رسمي بأنهم مهاجرون غير شرعيين ولا ينتمون إلى ميانمار، ووافقته في ذلك شخصيات وجماعات محلية رسمية وغير رسمية.

وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع، ونحاول معرفة أسباب ما يتعرض له quot;الروهانغquot; من مجازر وحملات إبادة جماعية، وأسباب الإجماع الداخلي على عدم التنديد بها، لابد من توضيح بعض الحقائق:

* يتكون سكان بورما من نحو 135 إثنية مختلفة معترف بها: أهمها إثنيتا quot;بامارquot; وquot;شانquot; البوذيتان (تشكلان معا نسبة 77 في المئة من السكان)، وإثنية quot;تشينquot; التي تدين غالبية أفرادها بالمسيحية (2.5 في المئة)، وإثنية quot;كارينquot; التي تتبع الديانتين المسيحية والبوذية (7 في المئة)، وإثنية quot;كاتشينquot; وغالبيتها من المسيحيين (1.5 في المئة). هذا إضافة إلى العديد من المجموعات الإثنية غير المعترف بها مثل البورميين المسلمين من أصل صيني المعروفين بـquot;بانتايquot;(3 في المئة) والبورميين المسلمين الروهانغ (0.15 في المئة)، والبورميين المنحدرين من أصول هندية وبنغالية (2 في المئة). وبينما تتعايش الأقليات مع الأغلبية في مختلف ولايات البلاد دون مشاكل أو صدامات، فإن الوضع مختلف في ولاية quot;راكينquot; الغربية المحاذية لبنغلاديش حيث يتركز المسلمون الروهانغ.

* أقلية الروهانغ التي ينقسم المؤرخون حول مصدر تسميتهم وأصله، نُظر إليهم على الدوام من قبل السلطات والجماعات القومية على أنهم مجرد أجانب مقيمين وليسوا مواطنين. وعليه فقد تعرضوا خلال العقود الماضية لانتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية، مثل التمييز ضدهم في العمل والزواج والتعليم، وفرض قيود على حركتهم وسفرهم، ومصادرة ممتلكاتهم، وتحديد عدد من ينجبون من الأطفال.

* حملة الترويع والإبادة ضد الروهانغ، والتي انطلقت شرارتها في مايو الماضي، وإن كانت الأبشع والأوسع منذ سنوات، فإنها ليست الأولى. فأثناء الاحتلال الياباني لبورما في عام 1942 ذبح القوميون من ولاية راكين نحو 5 آلاف من مواطنيهم الروهانغ. وبعد الإطاحة بحكومة الرئيس المنتخب quot;أونوquot; على يد العسكر في 1962، استهدفت السلطة الجديدة الروهانغ بطريقة وحشية ممنهجة. وفي 1978 أطلق العسكر quot;عملية التنينquot; لطردهم من ولايتهم، مما اضطر نحو مائتي ألف منهم للهرب إلى بنجلادش للإقامة في مخيمات اللاجئين. وقد أكملت الطغمة العسكرية تلك الخطوة المتوحشة بنزع الجنسية والهوية البورمية عن هؤلاء في الثمانينيات، ناهيك عن قيامها في مطلع التسعينيات بعملية تهجير جديدة لهم تمخضت عن فرار 250 ألف شخص إلى دول الجوار.

إن حقيقة تركز الروهانغ في ولاية quot;راكينquot; المحاذية لبنجلادش تحديداً، وأشكالهم وعاداتهم، تشي بأنهم من ذوي الأصول الهندية ممن جاء المستعمر البريطاني بأجدادهم إلى بورما بعد الحرب العالمية الثانية للعمل في مشاريعه وأجهزته. ولما كان هؤلاء أكثر علماً وثقافة من سكان البلاد الأصليين فقد بنوا لأنفسهم نفوذا وثروات وإقطاعيات زراعية على حساب السكان المحليين البوذيين، مما أوغر صدور الآخرين ضدهم. ومن هنا فإن للصدام العرقي الحالي في هذا الجزء من ميانمار تحديداً رواسب وجذورا تاريخية واقتصادية ودينية متشابكة. ولعل ما أخرج تلك الرواسب إلى السطح اليوم في صورة مجازر وحشية تــُذكر المرء بمجازر الخمير الحمر، هو عامل إضافي حديث. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة دوراً مهماً في التذكير بهذا العامل، وبيان أخطاره المحدقة بهذه البلاد وسكانها من معتنقي البوذية، وتحشيد الجماهير البورمية غير المسلمة خلفه.

ولعله بسبب هذا العامل أيضاً صمتت شخصيات وجماعات لطالما رفعت أصواتها ضد القمع والظلم والمجازر، مثل الزعيم الروحي لشعب التبت الدالاي لاما، وقادة الثورة الزعفرانية في بورما، والناشط البورمي الداعي للعدالة والديمقراطية quot;كوكوغيquot;.

والمتفحص لبعض المواقع الإلكترونية والمدونات وصفحات quot;الفيسبوكquot; سيصطدم حتما بحملة كراهية ضد مسلمي بورما، وذلك لأسباب عديدة يتعلق بعضها بوجود الاحتقان التاريخي ما بين البوذيين والروهانغ والذي يسهل تحريك الفريق الثاني ضد الأول، وحالات الفقر والإحباط والانقسامات القبلية والعرقية وانتشار السلاح.

وأخيراً فإنه أياً كانت الأسباب، فلا مبرر لهذه المجازر البشعة التي يندى لها الجبين. أما الأكثر بشاعة فهو صمت المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية حيالها، وكذلك موقف الجارة المسلمة بنجلادش التي سدت الأبواب في وجوه الهاربين من المجازر بحجة ضعف إمكاناتها المادية واللوجستية.