القاهرة - أمينة خيري

أن تتظاهر اعتراضاً على عزل رئيسك، فهذا مقبول. وأن تحتج غضباً على شرعية ميتة، فهذا معقول. وأن تعتصم رافعاً مطالب حتى وإن كانت خيالية، فهذا وارد. وأن تقدم على خروقات أمنية وانتهاكات حقوقية في خضم حماستك laquo;الثوريةraquo;، فهذا يحدث أحياناً. وأن تعمد إلى السيطرة على العقل الجمعي عبر أدوات أشبه بالتنويم المغناطيسي، فهذا مكتوب في الكتب. وأن تستدعي أطفالك أو تستأجر أطفال الملاجئ لتزج بهم في مسيرة للإتجار بقضيتك، فهذا ليس غريباً على من يفرطون في اتباع منهج ميكيافيللي. لكن أن تشطح بالخيال وتحلّق في الفضاء وتخلط الحقائق بالهلاوس والوقائع بالدسائس، فهذا ما يحدث الآن في laquo;رابعة العدويةraquo;.

فعلى مقربة من مقر اعتصام أنصار الرئيس المصري المعزول محمد مرسي أمام مسجد رابعة العدوية حيث المتعة والإثارة، يوجد مقر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حيث عدد السكان مثبت أعلاه. اقترب عدد المصريين من 85 مليوناً. ولو اعتبر مجازاً مئة مليون، فإن ذلك يعني أن laquo;مليارية رابعةraquo; التي دعا إليها مشايخ وخطباء المنصة أمس في حاجة إلى 900 مليون مواطن لتكتمل عدتها.

عدة المصريين وعددهم وعتادهم وقفت عاجزة عن استيعاب هذه الدعوة التي خرجت من حيز المعقول مهما بلغ من غرابة إلى مجال اللامعقول بكل ما يحمله من فجاجة. وعلى رغم الاحتباس السياسي الرهيب والشلل المروري العتيد والإحباط الثوري الشديد والقلق الشعبي المريع، إلا أن laquo;رابعةraquo; بمنصتها الجهورية وفعالياتها الرعديدية وبثورها الليلية وآثارها الجانبية تحولت إلى منظومة قائمة بذاتها في حياة المصريين، منهم من يحاول فك لوغاريتماتها، ومنهم من يمعن في تعقيدها بغية الخروج بتحليل شاف واف، ومنهم من يعتبرها مصدراً متجدداً للفكاهة، وإن كان يتسم بالخطورة واحتمال الانفجار بين لحظة وأخرى.

فما هي إلا لحظات بعد إعلان المنصة عن laquo;مليارية ليلة القدرraquo;، حتى تعامل معها بعضهم تعاملاً علمياً رياضياً بحتاً بحثاً في معنى المليار (البليون) التي قلما يسمع بها في مصر باستثناء في طفرات مفاوضات صندوق النقد الدولي وموجات الإعلان عن عجز الموازنة.

نجح أحمد، وهو طالب في المرحلة الثانوية، في النبش في أغوار الأرقام، وأعلن لأصدقائه أن laquo;الملياريةraquo; المتوقعة ليست نهاية المطاف، فقد وجد أن هناك laquo;كريلوينيةraquo; (24 صفراً) و laquo;سنكليونيةraquo; (30 صفراً) و laquo;تيفيلياريةraquo; (57 صفراً) و laquo;ديشلياريةraquo; (63 صفراً). وخلص إلى أن اعتصام laquo;رابعةraquo; مازال أمامه الكثير من العمل والحشد.

صغر سن أحمد لم يمكنه من فهم النكتة التي ألقاها جده لدى سماعه بـ laquo;ملياريةraquo; رابعة عن laquo;أبو لمعةraquo; (الشخصية الكوميدية التي اشتهرت في ستينات القرن الماضي بالمبالغة الشديدة) الذي ظل يحاول إقناع صديقه بأن ثعباناً طوله 700 متر دخل فمه أثناء نومه، وفشل في إخراجه حياً فشطره نصفين laquo;بالطولraquo;.

طول فترة الاعتصام في laquo;رابعةraquo; والذي تكلل بـ laquo;الملياريةraquo; بعد ما تخطى حواجز الألفية وسدود المليونية، أدى إلى خروج على المألوف في شؤون الاعتصامات. فقد أعلنت الجماعة ان وزير ثقافتها علاء عبدالعزيز افتتح laquo;ساقية رابعة أمام طيبة مول في اعتصام الشرعية في رابعة العدويةraquo; على غرار laquo;ساقية الصاويraquo; الثقافية.

laquo;الساقية الجديدةraquo;، على ما أعلن وزير ثقافة laquo;رابعةraquo;، ستكون laquo;ملتقى للمثقفين وأصحاب الاهتمامات الثقافية في اعتصام رابعة من رافضي الانقلاب، بغرض خدمة الحركة الثقافية والمثقفين عموماً ورابعة خصوصاًraquo;.

مثقفو laquo;رابعةraquo; يبهرون المصريين كل يوم بفقرات متنوعة ومشاهد مبهرة، فبين أطفال يحملون الأكفان، ونساء يحشين المحشي ويلاحقن البط، وتدريبات قتالية هزلية، استمر مسلسل الإبهار بظهور أحدهم بملابس الإحرام إذ ركزت عليه كاميرا laquo;الجزيرة مباشرraquo; في شكل متكرر. المشهد فجّر أمواجاً من التعليقات بين ملوح بأن laquo;رابعةraquo; تسعى إلى سحب البساط من مكة المكرمة، ومتسائل إن كان يود الذهاب إلى laquo;رابعةraquo; فهل ينزل من بيته بملابس الإحرام أم يحرم هناك، ومتشكك في أن ما يراه هو هلاوس بصرية.

علاقة المصريين بما يجري في laquo;رابعةraquo; لا تقف عند حدود الهلاوس البصرية، لكنها تتخذ أشكالاً عدة. فمنها ما يصلهم عبر المسيرات المتفرقة لقطع طريق هنا، أو محاصرة منشأة هناك، ومنها ما يصلهم من خلال أصدقائهم أو أقاربهم ممن يسكنون عمارات laquo;رابعةraquo;، ومنها ما تبثه إلى غرف جلوسهم قناة laquo;الجزيرةraquo; وما تيسر من قنوات محبة لـ laquo;الشرعية والشريعةraquo;، ومنها ما تبثه مواقع خبرية محبة للجماعة من أخبار عاجلة، ومنها هذا الخبر العاجل: laquo;جاءت مجموعة من مدرعات الجيش والشرطة في نوع من الهجوم ولكن عندما استنفر الميدان وصاح الله أكبر هرعت إلى نادي الشرطةraquo;.

وتطورت أمس العلاقة بين المصريين و laquo;رابعةraquo; بعدما طرأ تغير تكتيكي في مسيراتهم الليلية التي تحولت صباحية وقطعت طرقاً حيوية في مدينة نصر ومصر الجديدة، وهو ما فجر ينابيع الغضب المكتوم بين آلاف المواطنين الذين وجدوا أنفسهم بلا حراك في داخل سياراتهم أو وسائل المواصلات على مدى ما يزيد على ثلاث ساعات، وهو ما زاد شعبية الجماعة بين الجموع المحبوسة.

ومثلما الشعبية لا تعني بالضرورة laquo;المحبةraquo;، فإن الأرصفة لا تعني بالضرورة أماكن مبلطة مخصصة للمارة. laquo;رابعةraquo; وكل ما يحيطها من شوارع أضحى بلا أرصفة، بعدما تم خلع آخر ما تبقى من بلاطات إما لاستخدامها كمتاريس أو تخزينها كأسلحة للتراشق لزوم laquo;الملياريةraquo; وتأمين فعاليات laquo;ليلة القدرraquo;.

وبينما دعت جموع المصريين في هذه الليلة المباركة أن يحفظ الله مصر وشعبها، ويقيها شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يبقي على رباط أهلها إلى يوم الدين، تركزت أدعية laquo;الملياريةraquo; على الانتقام وتشتيت وحدة وبث فرقة وزرع سموم وحرق قلوب وشل عقل كل من هو ليس من أنصار laquo;الشرعية والشريعةraquo; المتجسدتين في مرسي.

ووفق تغريدة الناطق الرئاسي السابق ياسر علي laquo;من قلب الاعتصام السلمي في رابعةraquo;، فإن laquo;الجميع على قلب رجل واحد، ولن نترك الميدان ولو قتلونا، وسنكون عبدالله المقتولraquo;. وبين من يشتاقون إلى أن يصبحوا laquo;عبدالله المقتولraquo; ومن يحلمون بأن يكونوا laquo;عبدالله السعيدraquo; أو حتى laquo;عبدالله على قيد الحياةraquo; هوة عميقة، هي تلك التي تفصل laquo;مليارية رابعةraquo; عن laquo;ديشليارية مصرraquo;.