القاهرة - من جوليا حمادة: لكل زمان دولة ورجال!
&
وعندما رأى الفنان والأستاذ الأكاديمي، وصاحب التجربة الأهم نقابياً في الفن العربي، المصري أشرف زكي، أن هذا «زمن الصغار، الذين يلقون بأوحال الاتهامات على الكبار»، آثر الانسحاب من مشهد اختلط فيه الحابل بالنابل.
&
وفي ركن وقف متفرجاً على المشهد العبثي، مراقباً ما يدور ومانحاً نفسه فُسحة لإعادة الحسابات...هكذا قال زكي في حواره مع «الراي»، لافتاً إلى أنه انزوى يبحث ويحلل ويمحص، قابضاً على اقتناعاته في زمن «يكبر فيه في عين الصغير صغاره، وتصغر في عين الكبير الكبائر».
&
واستغل زكي استراحة المحارب تلك، ليعود إلى بيته معهد الفنون المسرحية، وعمله الفني الذي انشغل عنه، حيث غلّب مصلحة بلده، وأفنى عمره في خدمة زملاء درب لم يجنِ من خدمتهم سوى الجحود، على حد قوله.
&
وفي الخضم، لم يفقد زكي ملامح وجه طيب مألوف على الشاشتين الصغيرة والكبيرة، يجعله ينفذ إلى القلوب ببساطة متناهية، ومن دون استئذان، ومن جديد أصبح التمثيل والتدريس الأكاديمي شاغليه الوحيدين!
&
وعاد يجمع الفن من أطرافه...ممثلاً ينتهج تكتيك «السهل الممتنع»، ويكسو «شخصياته» - من ثقافته الواسعة وحرفيته العميقة - ما يمنحها ملامح متميزة وبصمة خاصة، تفلتان بها من «فخ» نمطيتها!...ومخرجاً مسرحياً يملك اجتهادات مرموقة على خشبة المسرح، وأستاذاً للإخراج والتمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، أسهم في تخريج أجيال من الفنانين المعروفين.
&
وعرّج زكي بآرائه ورؤاه على قضايا كثيرة، تأتي تفاصيلها في هذه السطور:
&
• في البداية، هل قررت الترشح للانتخابات النقابية من جديد؟
&
- أنا في الحقيقة أرى أن الوقت لا يزال مبكراً، لكي أتحدث عن مسألة ترشُّحي للانتخابات في الوقت الحالي، ومن ثم لا يمكنني أن أتوقع ماذا سيكون قراري عندما يحين الوقت...ولكل وقت حديث. لكنني في الوقت نفسه لا أستطيع أن أتجاهل دعم الكثيرين من زملائي، وإلحاحهم عليّ لكي أعود لتحمل المسؤولية النقابية مرةً أخرى، وبصراحة إصرار هؤلاء جميعاً يجعلني حريصاً على توجيه شكري لهم، وتقديري لثقتهم بي. وبالرغم من احترامي لكل من يريد عودتي إلى «التمثيل» النقابي، فإنني لم أحسم قراري بشكل نهائي بعد.
&
• ألحظ أنك تشعر بصعوبة في اتخاذ قرارك؟
&
- هي ليست صعوبة بالمعنى الكامل، ولكنه قرار مهم، ويستلزم تفكيراً دقيقاً، أولاً لأنها مسؤولية كبيرة جداً، وثانياً لأن الظروف في الوقت الحالي اختلفت بشكل كبير، ومن نواح مختلفة، وهي كلها عناصر تدفعني إلى التريث ومراجعة النفس كثيراً، قبل أن أتخذ قراري بإعلان موقفي النهائي.
&
• وعلى الصعيد الفني، أين كنتَ طوال السنوات الماضية، التي ابتعدتَ فيها عن منصب نقيب الممثلين؟
&
- قضيت فترة غيابي في المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي أعمل فيه أستاذاً للتمثيل والإخراج، وهو المكان الأقرب إلى قلبي، والذي أجد فيه سكينتي التي أفتقدها في أماكن كثيرة أخرى. ومن هذا المكان قررتُ أن أبدأ حياتي من جديد، لأننا جميعاً - أقصد الأساتذة في «أكاديمية الفنون» - عندما ننهي أي عمل نكون منتدَبين لتأديته داخل وزارة الثقافة نعود إلى الأكاديمية مرة ثانية لمواصلة رحلتنا في التدريس وتخريج الأجيال الجديدة، ولهذا فهو قريب على قلبي، إذ أجد خليةً لا تكف عن ضخ فنانين جدد في ساحة الإبداع، وهو أمر يجعلني أفخر دائماً بهذا المكان وأعتبره بيئة مهمة ومريحة للعمل.
&
• وكيف وجدت استقبال زملائك وطلابك في المعهد؟
&
- استقبلوني بترحاب كبير، فأنا أملك علاقات محبة تجمعني مع الطلبة وكثير من الأساتذة، ولعل هذا ما جعلني أشعر بالطمأنينة حين قررت الرجوع إلى المعهد واستئناف رحلتي مع التدريس الذي أعشقه، فقد لا يعرف الكثيرون أنني خريج كلية التجارة في جامعة حلوان، ولكنني غيّرت اتجاهي العلمي إلى الفن لحبي للتمثيل، وتفوقت وعملت أستاذاً لكي أسهم في إثراء الفن، وأنا فخور بهذا الدور.
&
• كنت محركاً للأحداث، نقيباً ورئيساً للبيت الفني للمسرح ومرشحاً كوزير للثقافة والإعلام أكثر من مرة، بل إن البعض رأى فيك واجهة مشرفة، وطاقة تؤهلك رئيساً للحكومة في مصر، إلى أي مدى شعرت بصعوبة في استكمال حياتك بعد انصراف كل هذا وخروجك من المنصب؟
&
- أصدقكِ القول، إن المشكلة بالنسبة إليّ لم تكن في المنصب، ولكن في الظروف الصعبة التي أحاطت بي وتعرضتُ لها في هذه الفترة.
&
• لكن الأحوال تبدلت كثيراً خلال الفترة الماضية، فلماذا رفضتَ عروضاً عدة قُدمت إليك؟
&
- تلقيت أكثر من عرض، ولكنني - بصراحة - لم أكن أرغب في العودة، إلا عندما تعود مصر إلى وضعها الطبيعي، ومن حسن الحظ أنها بدأت تتخذ خطواتها الجادة والحثيثة لتضع قدميها على سكة العودة بالفعل. وقد كنت أقول دائماً إن المعنى الحقيقي والأصعب للغربة هو «أن تعيش في بلدك وأنت تشعر بأنك مغترب».
&
• وما الذي دفعك إلى تفضيل العزلة والابتعاد في الفترة الماضية؟
&
- الحقيقة أنني لم أبتعد بالمعنى الحقيقي للكلمة، فأنا لم أغب عن الساحة، بل عدتُ لأمارس مهنتي كمخرج وممثل في كل الأحوال، وخلال موسم رمضان الماضي شاركت في أكثر من 5 مسلسلات، بينما كنت قد شاركت في عملين عُرضا في رمضان السابق.
&
• تعرضتَ لكثير من الإساءات والاتهامات أثناء أزمتك، فكيف كنت تواجهها؟
&
- نحن في زمن الصغار، والمناصب باتت بلا طعم، وصار الصغير يقذف بأوحال الاتهامات على الكبير. وعندما تصل الأمور إلى هذه الحال لا يستطيع شخص مثلي، يود أن يحتفظ بنظافة سيرته، إلا الانسحاب والعودة إلى العمل الأصلي، ريثما تسترد مصر عافيتها، ويوضع كل شيء في نصابه، وساعتها ربما يدرك من أخطأ أنه أخطأ.
&
وفي هذه الحال سيكون لي رأي آخر، لأنني - بصراحة - عزّ على نفسي ما تعرضت له من إساءة بغير مبرر ولا منطق، ولم أكن أستحق شيئاً من ذلك، فقد عملت سنوات طويلة بصدق وأمانة يعرفهما الجميع عني، وفي نهاية المطاف أذهب كي أخضع للتحقيق في جهاز «الكسب غير المشروع»؟، ومع ذلك ظهرت نظافة ذمتي - والحمد لله - إذ خرجت من هناك بعد 10 دقائق!
&
• ماذا تقول لمن يرددون أن وقوفك إلى جانب «نظام مبارك» كان السبب وراء تراجع شعبيتك؟
&
- ربما كان هذا صحيحاً، ولكنني للأمانة لم أكن أؤيد مبارك، بل الاستقرار، كنت واحداً من الملايين الذين استولى عليهم الخوف من سقوط مصر في حفرة الفوضى وعدم الاستقرار، وقد خرجت بصورة عفوية، بلا انتماء إلى حزب، أو فريق، مجرد مواطن له رأي مستقل في ما يحصل في بلده، وأنا لست مديناً لأحد، ولم أكن أسدد ضريبة لأحد، فكل ما حصلتُ عليه من مناصب كان نتيجة لكفاءتي!
&
• لكن كثيرين يربطون بين مناصبك القيادية في وزارة الثقافة، وفوزك برئاسة نقابة الممثلين، وبين قربك من دائرة الحزب الوطني؟
&
- هذا ادّعاء وتدليس على الحقيقة. فلم أكن أحمل عضوية الحزب، وما أوصلني إلى مقعد نقيب الممثلين هو محبة وثقة زملائى، وهي منحة من الله أشكره سبحانه عليها.
&
• والآن، هل من الممكن أن يسامح الدكتور أشرف زكي من خذلوه، خصوصاً من أصدقائه؟
&
- ما تعرضت له كان كثيراً، ولم أكن أستحقه، لقد بلغ بهم الأمر حدّ أنهم أشاعوا عني أنني سرقتُ أموال الضحايا في حادث مسرح بني سويف، لكن بضدها تتميز الأشياء، فالذين دافعوا عني هم أهالي الضحايا أنفسهم. وللأسف الشخص الذي وقّع على شيكات بني سويف كان يشارك في توجيه الاتهامات لي، وكان كثيرون يريدون سجني والنيل مني، بالرغم من أن متوسط كل ما تقاضيتُه من مرتب في الفترة التي كنتُ فيها رئيساً للبيت الفني ورئيساً لقطاع الإنتاج الثقافي ومسرح السلام هو 5 آلاف جنيه في الشهر، وهذه الأرقام موثقة بالمستندات. لكن ما حزّ في نفسي أنهم تسببوا في استدعاء زوجتي من قِبل جهاز الكسب غير المشروع، فما ذنبها هي لكي يحمِّلوها تبعة كراهيتهم لي. لكن يبقى أنني الوحيد الذي أمتلك ورقة براءة ذمة مالية.
&
• وهل يمكنك التصالح مع من أساؤوا إليك؟
&
- سأتصالح مع أي شخص، إلا من حاول إيذائي وإيذاء أهل بيتي أو من حاول أن يسيء إلى سمعتي ويشوّه سمعة أسرتي. ويكفي أن أذكر لك أنني قمت بتصوير أكثر من 21 مسرحية، ولم أتقاضَ مليماً واحداً، في حين أنهم لم يصوروا مسرحية واحدة. وأتحدى أن يُظهر أحد مستنداً يثبت أنني حصلت على جنيه من تصوير مسرحية منذ مغادرتي قبل 4 سنوات. في حين أنني وضعت مكافأة لمدير المسرح قدرها 5 آلاف جنيه وقتها، علاوةً على أنني أدخلت أموالاً إلى البيت الفني للمسرح، وبهذه الأموال جدّدت مسرح الطليعة وبيرم التونسي ومسرح الحديقة الدولية والمسرح العائم الصغير والكبير وتمت تغطيتها. وأقمت المخازن المركزية بحي 6 أكتوبر. ومع ذلك، أنا لستُ غاضباً من أحد، لأنني رجل متصالح مع نفسي ومتسامح، لكنني لم أكن أستحق كل ما حدث.
&
• يقال إن أسرتك أوشكت على التفكك بفعل أزمتك؟
&
- بل على النقيض تماماً، أسرتي تأثرت بالإيجاب، وازددنا حباً وتماسكاً، بفضل الله، وصرنا نبتسم في سخرية من الإشاعات الفارغة التي تزعم انفصالي أنا و روجينا، والحمد لله أنها تألقت فنياً على مدى سنوات ما بعد الثورة - وأنا خارج النقابة والمناصب - وإلا لاتهموني باستغلال منصب «النقيب» من أجل ترويجها في الأعمال الفنية، وأنا كذلك تضاعف نشاطي الفني في الفترة الماضية. لكن العجيب أن بعض من كانوا يتهموني بإعاقتهم عن العمل، لايزالون عاطلين عن الإنجاز بالرغم من أنني غادرت كل مناصبي، بما فيها منصب النقيب، وهذا أبلغ دليل على أنني بريء من هذه الادعاءات التي لا تخرج إلا من نفوس مريضة!
&
• وماذا لو عُرض عليك اليوم منصب جديد في وزارة الثقافة؟
&
- مصر اليوم تعود بالتدريج - كما قلتُ - وتستعيد عافيتها، وبالتالي نحن نعود معها، لكن عودتي لن تكون من خلال المناصب، فأنا أؤمن بأن المناصب تأتي وتزول، وهذه هي سنة الحياة التي نعرفها جميعاً، ولكن الإبداع وحده، هو الذي يبقى.
&
• معنى هذا أنك ستنحاز للفن، وتدير ظهرك للمناصب الحكومية؟
&
- الفن والإبداع هما الأهم بالنسبة إليّ، لأن المبدع والفنان لا يحتاج إلى منصب، وعندما كنتُ أجلس على الكرسي «الرسمي» لم أستغل منصبي كي أحصل على أعمال فنية أكثر، بل إنني - على العكس تماماً - كنت أنشغل بهموم العمل العام ومصالح أعضاء النقابة، وكانت سعادتي تصل إلى غايتها القصوى عندما أنجح في حل مشكلة عضو أو زميل.
&
• وهل تغيّرت أشياء في حياتك الفترة الأخيرة؟
&
- بدأتُ أعود لاستئناف عملي كمخرج ومبدع، بعدما تركت مناصبي الرسمية، فما أحلى الرجوع إلى مهنتي الرئيسية التي تقدمت إلى المعهد من أجلها، ومن ثم عدتُ إلى مهنتي الحقيقية التي لم أستطع أن أتفرغ لها، لأنني في وقت ما ضحيت بفني كي أخدم بلدي، ولستُ نادماً، ولو أعاد التاريخ نفسه فسأعيد كل ما فعلتُ بالضبط في خدمة البلد.
&
• وهل تشعر بالرضى عن الفترة التي شغلتَ فيها مناصب رسمية كنقيب؟
&
- يكفي أنني استطعت مع زملائي أن نبني ونشيد مسارح مثل بيرم التونسي والحديقة الدولية والعائم الصغير والكبير. وعندما أزور هذه الأماكن الآن تغمرني فرحة كبيرة، لأنني كنتُ يوماً ما واحداً من الكتيبة التي أضافت إلى هذا المكان، لأننا لم يكن لدينا «أوبرا ملك»، فأنا لم أدخل الوزارة وأغادرها من دون أن أحقق شيئاً يذكر.
&
• عملت تحت قيادة وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، هل ما زلتَ تتواصل معه؟
&
- فاروق حسني إنسان رفيع الأخلاق وفنان كبير، وبيننا تواصل وود، وهنأته على معرضه التشكيلي الأخير، وكذلك اتصلت به بمناسبة الاحتفال بافتتاح مسرح بيرم التونسى، هذا المسرح الذي بذلت جهوداً طائلة لكي أحصل على أرضه من المحافظ، وأبنيه صرحاً فنياً، بعد أن كان موقعه مجرد بقعة «خربة»، وفي نهاية المطاف حذفوا اسمي أنا والوزير فاروق حسني، والطريف أن هناك شخصاً تولى رئاسة البيت الفني للمسرح فترة قصيرة للغاية، ولو أردت البحث عما أنجزه، فستجدين أن أهم إنجازاته، وربما إنجازه الوحيد أنه أزال اسمي من فوق مشروعات بذلت قصارى جهدي من أجل تشييدها، ويكفيني أن وزير الثقافة حينذاك، الدكتور شاكر عبد الحميد، اعتذر لي هاتفياً عن هذا الظلم الذي تعرضتُ له.