&جميل مطر

لم يحدث، بحسب ما أذكر، أن كانت السياسة الدولية بمثل ما هي عليه اليوم، موجات غموض تعقبها موجات وضوح. يشكو محللون وسياسيون من أن حالات عدم الفهم التي تعتريهم أثناء عملهم صارت أكثر عدداً وأشد تعقيداً من حالات الفهم. توصل بعضنا منبهراً مثلاً إلى أن الولايات المتحدة تبدو من خلال سلوكها الدولي مطمئنة إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات مسيطراً على دمشق. بينما كثيرون رصدوا مؤشرات تفيد بأن واشنطن مرتاحة إلى أن روسيا نجحت في «تحجيم» بعض طموحات رجب طيب أردوغان، وربما استطاعت إعادة تركيا كدولة إقليمية إلى مكانة تناسب واقعها وقوتها الحقيقية وأزماتها الداخلية المتفاقمة، ولا أكثر.

وأظن أننا لن نبتعد كثيراً إذا صدّقنا مؤشرات أخرى تشير إلى أن موسكو، وليست عواصم الغرب، كانت القوة الأهم التي استطاعت «ترويض» بعض فصائل المعارضة السورية، وإخراجها من غرف وقاعات الضجة والصراخ والمنافسات الصغيرة إلى ساحة التفاوض.

بوتين، بحسب هذا الرأي واسع الانتشار لدى محللين في الغرب، استطاع أن ينفتح على إيران إلى الحد الذي يسمح له بأن يتدخل في كثير من أنشطتها على أرض سورية، وبخاصة ما يتصل منها بقصور الحكم في دمشق. استطاع أيضاً وبنجاح ملحوظ أن يفرض على القوى الإقليمية المتدخلة في الأزمة السورية، إعادة النظر في بعض أهم خططها وتحالفاتها الإقليمية والدولية. وفي ظني، وظن آخرين، أنه ربما تسبّب بارتباك إقليمي ستظهر آثاره متدرجة في الأسابيع والشهور المقبلة.

في الوقت نفسه، يصعب علينا، كمحللين أو مراقبين، إنكار حقيقة أن روسيا بوجودها مؤثرة أو مسيطرة في دمشق أبعدت احتمالات تدخل أوروبي في الأزمة السورية. بمعنى آخر أفلح بوتين وجماعته في موسكو في تجنيب سورية عواقب مغامرات أوروبية كتلك التي مورست في ليبيا، وكانت روسيا نفسها ضحية من ضحاياها. يصعب أيضاً إنكار أن الوجود الروسي المهيمن في دمشق يمكن أن يفلح في إنقاذ مستقبل سورية من المصير الذي انتهى إليه العراق بسبب الفراغ الذي خلّفه اختفاء صدام حسين وانفراط نظامه وتبعثر قواته المسلحة، وكذلك بسبب اندفاع بعض النخب الحاكمة العربية نحو دعم خيارات الولاة الأميركيين الذين حكموا العراق في ذلك الحين. هذا المصير كان يمكن أن يكون في انتظار سورية لو أن أميركا رفضت الدور الذي تطوع بوتين للقيام به وتُركت سورية من دون دولة عظمى تفرض إرادتها على السلطة القائمة، وتفرض في الوقت نفسه حمايتها وتمنع أو تحد من تدخل الآخرين وتحض السلطة الحاكمة في مصر والجزائر والمغرب على التمسك بمبدأ الحفاظ على «كيان الدولة السورية ومؤسساتها».

بمعنى آخر، تفادت واشنطن بإرادتها الحرة الانغماس في حرب أهلية جديدة في الشرق الأوسط، ولكنها استمرت تشارك في تقرير مصير سورية، وربما مصير الإقليم كله، حين توصلت إلى صيغة «التفاهم الدولي» مع موسكو حول إدارة بعض جوانب هذه الأزمة.

الآن نستطيع المجازفة بتأييد الرأي القائل إن روسيا البوتينية نجحت بعد أكثر من ربع قرن في إقناع حلف شمال الأطلسي بأن لها دوراً في العالم، وبالتأكيد في شرق أوروبا والشرق الأوسط، وأنه يجب على الحلف احترام هذا الدور والاستفادة منه لمصلحة أجواء أقل عدائية بين روسيا والغرب. لم يكن خافياً في وقت من الأوقات توجس بعض خبراء السياسة الدولية من احتمال أن تطول الفترة التي أجبر فيها الشرق الأوسط على أن يعيش في غياب قوة دولية عظمى تهيمن عليه وتحد من تقلباته وانحرافاته وتخفف من عواقب عنفه وهياجه. لم يكن غائباً عن ذهني مغزى أن يكرر سياسيون ومراقبون أوروبيون، وبعض العرب، اعتقادهم بأن الإقليم يمر للمرة الأولى منذ القرن السادس عشر بمرحلة يغيب فيها «الكبير الخارجي». بدأ يسود هذا الاعتقاد عندما قرر الرئيس باراك أوباما تخفيف التزامات بلاده في الشرق الأوسط وأوروبا، وزيادتها في آسيا.

اعتمد الرئيس وقتها على مسلّمتين كانتا الأساس الذي بنيت عليه استراتيجية التحول بالاهتمام نحو آسيا. الأولى هي اقتناع الرئيس وكبار معاونيه، عسكريين وسياسيين، بأن آسيا ستحتل نصيب الأسد في استراتيجيات العالم وصراعاته خلال القرن الحادي والعشرين، والثانية هي أيضاً اقتناعه بأن دول آسيا، جميعها، ستزداد اقتراباً من الصين تعاوناً أو تنازعاً. في الحالين تتأكد الحاجة الماسة إلى وضع تصور مختلف تماماً لطبيعة توازن القوى الدولية خلال العقود المقبلة، حين تصبح السياسات والعقائد وأحجام القوى والدول مختلفة كل الاختلاف عما تعوّد عليه العالم الغربي على امتداد القرون الأخيرة.

أتصور أن الولايات المتحدة، ومعها عدد لا بأس به من دول الغرب، وبسبب غيابها عن الساحة السورية وعن الشرق الأوسط عموماً، صارت في أمس الحاجة إلى قوة، أو ائتلاف قوي، يستطيع أن يضمن لأطراف الأزمة الداخليين والإقليميين، أن «لا طرف» منها يستطيع الفوز عسكرياً على الأرض أو في الجو، وأن «لا طرف» سيتعرض للإبادة أو الترحيل في حال فُرض عليه إلقاء السلاح في أعقاب التوصل إلى تسوية سياسية. كانت أيضاً في أمس الحاجة إلى ما ومن يضمن للقوى الداخلية كافة المبعثرة والمنهكة والمستقلة نوعاً ما، أنه سيكون لها نصيب في الحكم، هذا الضمان قد يأخذ شكل مؤسسات واتفاقات وقرارات دولية ولكن سيأخذ أيضاً شكل «النفوذ السياسي» المستمر من جانب قوة عظمى أو أكثر في التأثير على نظام الحكم الجديد في دمشق.

لا أحد في الشرق أو في الغرب يتجاهل حقيقة أن انسحاب أميركا فتح شهية بعض الأطراف الإقليمية والداخلية للعدوان والتوسع وانتهاز الفرصة لتصفية حسابات دينية وسياسية وعرقية وثأرية. فتح الانسحاب كذلك شهية أطراف أخرى لشن حروب وحملات استباقية ضد من يمكن أن تسول له نفسه شن عدوان أو انفتحت شهيته له.

لا أبالغ وأنا أعلن اتفاقي مع ما توصل إليه معلقون أوروبيون من أن المستفيدين من سياسات الرئيس بوتين الخارجية صاروا كُثراً، بل ومؤثرين على الصعيدين الدولي والإقليمي. نظام الأسد مستفيد حتى الآن على الأقل، مستفيد أيضاً اليمين المتشدد في كل أوروبا، حتى إن إشاعات تتردد عن دعم مادي ومعنوي تتبادله روسيا مع بعض قوى اليمين الأوروبي. مستفيدةٌ أيضاً الأنظمة الحاكمة المناهضة للديموقراطية على النمط الغربي وحقوق الإنسان والحريات، فكلها من دون استثناء تجد في روسيا النصير والأمل.

غيرُ خافٍ كذلك أن الصين، هذه القوة الصاعدة بسرعة ولكن بانتظام وإصرار، تعتبر روسيا البوتينية «المتوسعة في النفوذ» ذريعتها الكبرى لإقامة منطقة نفوذ للصين في آسيا، على ضوء ما حققه بوتين لبلاده حين استعاد لها مناطق نفوذ في الجوار الأوروبي، وبخاصة في أوكرانيا وأرمينيا وجورجيا، وفي الشرق الأوسط، وبخاصة في سورية ومصر.

لا نختلف بيننا كأهل الإقليم على حقيقة أن الشرق الأوسط لم يعرف فوضى مماثلة للفوضى الراهنة منذ تعرض لغزو المغول في القرن الثالث عشر، ولن نختلف على حقيقة أخرى وهي أن الفوضى الراهنة نشبت في ظل غياب مفاجئ وغير مألوف من جانب القوى الغربية وخلافات عقيمة ومتخلفة من جانب القوى الإقليمية.

ما كان يمكن التفكير في ملء فراغ القوة في الشرق الأوسط من دون توافر الاستعداد لتدخل من جانب قوة كبرى من خارج الإقليم، وبشرطين أولهما أن يحظى هذا التدخل بدعم الولايات المتحدة وربما برضاء دول أوروبا، وبخاصة ألمانيا، وبمباركة الصين، وثانيهما أن يستمر الأداء العربي الجماعي عند حده الأدنى.