شملان يوسف العيسى

هجرة المسيحيين العرب من المنطقة العربية بدأت تزداد بسبب الاضطهاد الديني ومعاداة الأقليات بمن فيهم المسيحيون. وأغلب المسيحيين الذين تركوا المنطقة هاجروا إلى أميركا الشمالية والجنوبية وأوروبا وأستراليا. والبلدان العربية التي هاجروا منها هي لبنان قبل الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها عام 1992 – 1975، حيث انخفضت نسبة المسيحيين من 65 في المائة إلى 40 في المائة، إذ ازدادت نسبة المواليد لدى المسلمين وانخفضت لدى المسيحيين.

المسيحيون العرب في فلسطين بدأوا بالهجرة بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 والهزيمة العربية عام 1967. وازدادت هجرتهم بعد الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة في القدس ورام الله والمناطق التي يقطن فيها المسيحيون كلها.

في العراق بدأت هجرة المسيحيين العراقيين بأعداد كبيرة بعد الاحتلال الأميركي وتسلم السلطة الطائفية الممثلة بحزب الدعوة الإسلامي الحكم في العراق عام 2003. فقد كان عدد المسيحيين في العراق قبل سقوط صدام يقدر بمليون و400 ألف نسمة، وانخفض هذا الرقم اليوم إلى 500 ألف نسمة، وهم لا يزالون يهاجرون باستمرار بسبب تخريب الكنائس وقتل الكهنة وسدنة الكنائس.

أما في مصر فقد بدأت هجرة المسيحيين فيها بعد ثورة عبد الناصر عام 1952 وبدء عمليات التأميم ومصادرة أراضي الأغنياء، ومنهم كثير من المسيحيين. الأمر المؤسف في مصر أن العنف الطائفي ضد الأقباط لا يزال مستمًرا رغم الربيع العربي والوعود الكثيرة التي أطلقتها الحكومات المتعاقبة على حكم مصر.

في سوريا التي يشكل المسيحيون فيها نحو 30 في المائة من السكان مطلع القرن العشرين، انخفضت أعدادهم اليوم إلى أقل من 10 في المائة بسبب الحرب والمشكلات الطائفية.

تعتبر منطقتنا العربية التي شهدت ميلاد المسيحية والتي شكل معتنقوها خلال وقت من الأوقات أغلبية السكان، أصبحت اليوم لا تضم إلا قلة قليلة.. ففي بداية القرن العشرين كانت نسبة المسيحيين بالمنطقة 20 في المائة من مجموع السكان، ولكنهم اليوم يشكلون أقل من 10 في المائة من السكان العرب، وجاء النصيب الأكبر من الهجرة من العراق؛ لأن المسيحيين فيها تعرضوا للقتل والخطف والتهديد والمضايقات والتمييز الديني بعد وصول الحكومة الطائفية وازدياد الإرهاب في العراق، وقد شملت الهجرة المسلمين كذلك،
وخصوًصا الكفاءات العلمية والأدبية ورجال الأعمال وأهل الفكر والتقانة، على أن تنامي دور جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي أحد الأسباب الرئيسية لهجرة المسيحيين والأقليات بشكل عام.

ماذا تعني هجرة الإخوة العرب من المسيحيين؟ وخصوًصا أنهم يشكلون الطبقة المتعلمة والمثقفة التي كان لها الفضل في الحفاظ على العروبة والقومية العربية، فهم الذين قادوا الحملة لتحرير العرب من الهيمنة العثمانية من خلال الكتابة في الصحف والمجلات وقيادة الأحزاب القومية والعربية مثل البعث وحركة القوميين العرب، ولقد كان لهم الدور الأكبر في قيادة اليسار العربي في معركتنا ضد الاستعمار والتخلف، كما يعود لهم الفضل في حمل لواء تحرير المرأة وتعليمها ومشاركتها في المجتمع.

هجرة المسيحيين العرب تعني فشلنا شعوًبا ودولاً في ترسيخ مفهوم التعاون والتعايش وقبول مفهوم التنوع الإنساني والفكري والديني. وهذا يعني فشلنا في إقامة دول مدنية حديثة قادرة على حماية كل شرائح المجتمع، سواء كانوا من الأقلية أم من الأكثرية. لقد برزت قضية الطائفية بشكل عام في مجتمعاتنا بسبب ضعف الدولة وقصر تفكير المسؤولين، مما سهل بروز اتجاهات انفصالية وطائفية وقبلية كلها تعمل لمصالحها وليس لمصلحة الوطن.

ليس من العدل والإنصاف لوم كل التيارات الإسلامية، فبعضها اتخذ موقًفا مؤيًدا لحماية غير المسلمين وأوصى بالإحسان إليهم من منطلق الوحدة الإنسانية والوحدة الدينية العامة، باعتبار جميع المواطنين إخوة.

لقد أعجبني ما كتبه الكاتب والمفكر المصري د. وحيد عبد المجيد في جريدة «الحياة» يوم الأحد 14 أغسطس (آب) عن تجدد التوتر الطائفي في مصر، رًدا على من يدعون أن غياب القانون هو سبب المشكلة الطائفية، قائلاً إن القانون جزء من منظومة شاملة هي التي تجعله سيًدا وتضعه فوق القوة التي يخضع لها حين تغيب هذه المنظومة، فالقانون يكون سيًدا، أي يطبق على الجميع من دون استثناء أو انتقاد، عندما يطبق في إطار منظومة تقوم على المساواة بين المواطنين بغض النظر عن أصولهم وانتماءاتهم، ويتضمن آليات فاعلة للمراقبة والمساءلة والمحاسبة. وتتوفر في مثل هذه المنظومة بالضرورة حريات عامة وخاصة، أو أقلها مقدار
معقول منها في مجال عام مفتوح يتيح فرًصا لتفاعلات حرة يتوسع عبرها المجتمع المدني الحديث الذي تعلو فيه المواطنة وتقل مساحة المجتمع التقليدي الذي يضعف بنسبة هذه القيمة.