عمار علي حسن

ليس هناك ما يمنع أن يجري على «داعش» ما انسحب على غيره من التنظيمات والجماعات والقوى الدينية المتشددة، من انهيار وغياب بعد حضور طاغ ولافت، وهدوء بعد صخب وإزعاج شديدين. فهذه التنظيمات تنشأ في الخفاء، ثم تطفو إلى السطح بقسوة أعمالها الإرهابية، من قتل وتدمير وتخريب وتهديد، ليلاحق الإعلام أخبارها لاهثاً، حتى يظن المتعجلون والمرجفون أنها قد سادت، وأن وجودها هذا سيستمر زمناً طويلًا، ثم يجدونها قد تراخت وتراجعت، وصارت أثراً بعد عين، تاركة وراءها تاريخاً دموياً، وأفكاراً منحرفة، تسعى لتحط في رؤوس آخرين، فتدفعهم إلى تكوين تنظيم جديد!

وهذا المسار سيذهب إليه «داعش» ولو بعد حين، لأنه يحمل في داخله بذور فنائه، فهو خليط من أيديولوجيات شتى، تصل إلى حد التناقض التام، إذ ليس هناك ما يجمع من الناحية «الفكرية» و«الفقهية» بين بعثيين سابقين من بقايا حزب «البعث» والجيش العراقي الذي تم حله عقب احتلال بغداد، وبين سلفيين جهاديين انحدروا من أماكن عدة.

وفضلًا عن الفكر، فهذان الطرفان متنافران في الهدف، فالبعثيون يريدون العودة إلى حكم العراق، أو على الأقل الانتقام ممن أسقطوهم عن الحكم، سواء كانوا الأميركان أم من تعاونوا معهم من العراقيين، بينما السلفيون الجهاديون يتحدثون عن استعادة «الخلافة» على هيئتها التي كانت في القرون الوسطى، بل أزيد منها كثيراً. وهناك بين الاثنين بعض الصوفيين المنتمين إلى «النقشبندية» ممن حملوا السلاح ضد الاحتلال.
كما أن «داعش» ساهمت في صناعته على هذا النحو أجهزة استخبارات إقليمية ودولية، تتقارب مصالح دولها وتتباعد، وتتعاون وتتنافس، وفق تقلب السياسة، على أساس تغير المصالح، بمرور الوقت. وهذا الأمر يحدث خلخلة في صفوف التنظيم.

كما أن بعض هذه الدول، التي صنعت «داعش»، انقلبت عليه بعد أن استفحل خطره، وأعلن عن أهداف أخرى غير المتفق عليها مع قياداته الإرهابية، وبات يهدد الجميع، من دون تمييز، ويغير اتجاهات معاركه. ولهذا وجدنا في الفترة الأخيرة اتفاقاً إقليمياً ودولياً، إلى حد كبير، على ضرورة توجيه ضربات عسكرية قوية للتنظيم، بغية القضاء عليه، أو تقليل خطره إلى أدنى حد.

وعلاوة على هذا فإن الطريقة التي يقاتل بها «داعش» لا تمكنه من الاحتفاظ بالأرض التي احتلها، فنمط حرب العصابات قد يفلح في الدفاع عن أرض يملكها المحاربون بالفعل، ولكنه لا يُمكِّنهم من التوسع إلى أرض جديدة بشكل مستمر. وحتى من الناحية الدفاعية لا يتيح هذا النمط من القتال للمحاربين البقاء طويلًا في أرضهم وإدارتها، تراباً وسكاناً ومعنى، على أنها دولة. وهناك من مقاتلي «داعش» من يخوضون معارك محلية جداً، دفاعاً عن قرى أو مناطق جغرافية معزولة، فإن هزموا فيها يعتبرون أن الحرب قد انتهت بالنسبة لهم. وهذه النزعة اللامركزية في القتال وإن كانت تتيح للقادة المحليين حرية في التصرف، فإنها مع مضي الأيام تأكل من الهدف الرئيسي الذي أعلنه التنظيم وجند وعبأ كثيرين من دول مختلفة حوله وهو وهْم «إقامة الخلافة».

ويجب ألا نقلل من حالة التذمر المستمر التي تنتاب السكان المحليين من تصرفات «داعش»، لاسيما في سوريا، فإذا كانت بعض العصبيات القبلية والمذهبية قد أتاحت للدواعش وضعاً مريحاً في البداية على أرض العراق، فإن الأفكار التي يؤمن بها التنظيم سرعان ما تتصادم حتى مع من فتحوا له الطريق في البداية، أو على الأقل صمتوا عليه. فإصرار «داعش» على ممارسة دور الدولة الدينية، من حيث فرض الضرائب، والحسبة، وإقامة الحدود، وتحديد قواعد السلوك وأنماطه في الأسرة والمدرسة وأماكن العمل والشارع، يجعل الاحتقان ضده مستمراً، لأن كثيراً من هؤلاء السكان اعتادوا أنماط عيش مختلفة، وليس بوسعهم أن يستبدلوها بغيرها سريعاً على النحو الذي يريده «داعش»، بل من بينهم من يرفض تصورات «داعش» وتدابيره من الأساس. وحتى الدواعش أنفسهم جاءوا من ثقافات متباينة، وبعضهم لم تتمكن أفكار «داعش» من عقله وقلبه بعد، ومن ثم لن يقبل طواعية التضييق المستمر على حريته الفردية.

ولكل هذا فإن مصير «داعش» يبدو معروفاً، لكن نهايته قد لا تعني بالضرورة أن الأفكار التي أطلقها في فضاء التشدد الديني ستنقضي بسرعة، بل قد تسبح إلى تنظيم غيره، يظهر في المكان نفسه، أو في مكان آخر، ويضاف إليها مزيد من الانغلاق في الرؤية، والتوحش في التصرف، وهذا هو المسار الذي تأخذه حركة «الإسلام السياسي» لأنها لا تجد من يعالج أمراضها من الجذور.