حسن حنفي
وتطبيق الشريعة في ذهن البعض هو تطبيق العقوبات الشرعية فقط: الجلد والرجم وقطع اليد والصلب أي العقوبات الجسدية، فالشريعة، حسب فهمهم، منع وزجر وقمع وتحريم وعقاب! والعقوبات في مقابل التقاعس عن الإتيان بالواجبات. والواجبات في مقابلها حقوق. فلا يمكن تطبيق العقوبات الشرعية كإخلال بالواجبات إلا بعد إعطاء الحقوق، حقوق المواطن في بيت المال، في الغذاء والكساء والعلاج والتعليم والعمل والإسكان والزواج قبل قطع يد السارق ورجم الزاني أو جلده.
لقد توقف الفقه القديم على العقوبات الشرعية بعد العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية. ولم يتعرض للمسائل الاجتماعية العامة. اكتفى فقه القدماء بتطوير نظم القضاء كوسيلة للضبط الاجتماعي، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودرجاته باليد أو اللسان أو القلب، والحسبة وهي الرقابة على الأسواق والأسعار والموازين، وليس التفتيش في الضمائر والعقول والاتهام بالكفر والخروج عن الدين. وأهم شيء في القضاء هو شخص القاضي، عدله وذكاؤه وفطنته كما هو الحال في «أدب القاضي والقضاء».
والتعزير جزء من النظام القضائي. لا يكاد يبرزه أحد أو يعتمد عليه ممن ينادون بتطبيق الشريعة. ولا يحتج به أيضاً من يعارضونها تثبيتاً لمواقفهم. والتعزير هو الرجوع إلى الحاكم لتشديد العقوبة على جرائم الفساد العام ونهب أموال الدولة. فالحكم بقطع يد السارق حكم القاضي، إذا توفرت الشروط وغابت الموانع مثل الجوع والمرض والعري والتشرد والبطالة. وهو لا يكفي في حالة نهب المال العام، وتهريب الأموال إلى الخارج، والعمولات والسرقات والرشاوى من بعض رجال الأعمال تسهيلًا لعقودهم. والتعزير لغةً هو الرد والمنع، واصطلاحاً تعظيم العقوبة وتشديدها فيما لا حد فيه ولا قصاص ولا كفارة مثل سرقة أبراج الكهرباء ومقالب القمامة! وإذا كان القدماء قد وضعوا حداً أعلى للتعزير فإن المحدثين قد يرفعونه جزئياً أو كلياً طبقاً لعظم الجرم في نهب المال العام بالمليارات، والغرض إيلام مرتكب الجرم إلى الحد الأقصى كما آلم هو ملايين المواطنين.
ويعني التعزير أن الردع للفرد الذي لا يلتزم القانون قد يكون هو الطريق إلى العدالة للشعب. والهدف منه هو النموذج والردع لكل فاسد ناهب للمال العام. فالأحكام تطبق على كل الطبقات الاجتماعية وليس فقط على الفقراء دون الأغنياء.
الهدف من التعزير هو إعطاء المثل على جزاء نهب المال العام، واسترداد مال الشعب من ناهبيه ومهربيه. هو أخذ حق الشعب الذي سُلب منه، حق الجماعة الذي سلبه بعض الأفراد دون وجه حق. هو استرداد الأموال بدلًا من الاقتراض وتكبيل الشعب بالديون وأمواله في البنوك الأجنبية بأسماء ناهبيها أو بأسماء مستعارة. هو العدل العام حتى ولو أدى إلى الردع الخاص لفرد معين. فالصالح العام له الأولوية على الصالح الخاص. والحق العام يتصدر الحق الخاص. فالعدل مع الجماعة قد يجُب ظلم الأفراد الذين طالما نهبوا المال العام على عدة عقود من الزمن. فقد أخل بالأمانة التي بين يديه وبالقسم الذي عقده بالمحافظة على المال العام ومصلحة الوطن.
وتطبيق الشريعة على هذا النحو قد ينتقل من الخاص إلى العام، ومن الفرد إلى المجتمع. هنا يتفق أنصار تطبيق الشريعة والعلمانيون على تطبيقها. فمن يرفض تطبيق الشريعة على العام قبل الخاص إلا إذا كان متواطئاً في مخالفة؟ ومَن من العلمانيين يرفض تطبيق الشريعة بهذا المعنى، الصالح العام قبل الصالح الخاص، إلا إن كان ضحية الشقاق الأيديولوجي المبدئي، تنافساً على السلطة مع خصومه! ليست القضية إذن تطبيق الشريعة بين القبول والرفض، ولكن القضية تطبيق الشريعة على مَن، وعلى أي شرعة اجتماعية، ولأي سبب؟ القضية هي الدفاع عن الصالح العام سواء كان ذلك تطبيقاً للشريعة أم تنفيذاً للقانون أو لجوءاً إلى الفطرة والبداهة والحس السليم. وبعض الشعارات والمواقف المبدئية قد تنفر أكثر مما تجمع. وتفرق الناس أكثر مما توحّد. وتعبر عن قوى سياسية، قد يسعى كل منها لصالحه الخاص وهو الوصول إلى السلطة. والسلطة في يد مَن يدافع عن الصالح العام. وفي الوطن يلتقي جميع الفرقاء. إن الشعارات قد يساء استخدامها، ويساء فهمها وتأويلها. أما الصالح العام فهو ما يبحث عنه الجميع، الأغلبية الصامتة.
التعليقات