يبدو أن تداعيات حرب بوتين على أوكرانيا بدأت تسخن على أكثر من ملف في المنطقة، وإذا كانت دولتان من دول هذه المنطقة (إريتريا وسوريا) قد اعترضتا - إلى جانب كوريا الشمالية وبيلاروس - على قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يطالب روسيا "بالتوقف فوراً عن استخدام القوة ضد أوكرانيا" (وهو ما لم تفعله حتى الصين التي اكتفت بالامتناع عن التصويت على القرار)، فإنه، من جانب آخر، كان لمفاعيل زيارة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو عشية الحرب البوتينية على أوكرانيا يوم 24 فبراير (شباط) الماضي (وهي زيارة استغرقت قرابة أسبوع، وكنا قد ذكرنا في أكثر من مقال أنها زيارة ستنطوي على ردود فعل سلبية خطيرة على مصير السلطة الانقلابية في الخرطوم) ما كشف عن تداعيات على الوضع الثوري والسياسي في السودان (وهو وضع يشتبك في أكثر من ملف إقليمي ودولي) بصورة سرّعت من مجريات عديدة.

فبحسب ما يتداول اليوم من تسريبات زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى دولة الإمارات العربية المتحدة التي بدأت يوم أول من أمس ولقائه رئيس الوزراء السوداني المستقيل، عبد الله حمدوك، هناك أنباء تشير إلى ما يطبخ في الكواليس من قرب ظهور مبادرة تنشط فيها دول عربية ثلاث هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وجمهورية مصر العربية.

وتقضي المبادرة بإعادة حمدوك إلى رئاسة الوزراء مرةً أخرى (وهناك رواية تقول باحتمال أن يرأس مجلس السيادة).

في كل الأحوال، لا يمكن قراءة هذا التحرك الإقليمي والدولي الجديد في الاهتمام بالوضع السوداني - الذي لا يزال الحراك الثوري فيه على أشدّه منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي - والبحث عن تسوية له بمعزل عن تداعيات زيارة حميدتي لموسكو في ذلك التوقيت السيئ، كما لا يمكن فصل ذلك عن الإرادة الجادة للإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي على عدم التهاون في معاقبة كل من يساند بوتين، وليس بعيداً من ذلك انزعاج كل من الولايات المتحدة والسعودية ومصر من تصريحات حميدتي عقب عودته من موسكو حول إمكانية إقامة قاعدة لروسيا على البحر الأحمر، إلى جانب ما كشفت عنه صحيفة "ديلي تلغراف" قبل أسبوع من دعم السودان لموسكو بمعدن الذهب (الذي تستثمر موسكو في تنقيبه بالسودان) بواقع 30 طناً سنوياً، ودلالة ذلك على ما يمكن أن يفهم أنه دعم لموسكو في وجه العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي والتفاف على تلك العقوبات غير المسبوقة على روسيا عالمياً.

وفي تقديرنا أن هذه المبادرة التي كشفت عنها التسريبات، هي مبادرة أميركية أممية، بحكم أن كلاً من السعودية والإمارات تعتبران جزءاً من الرباعية التي تضم إلى جانبهما أميركا وبريطانيا، وهي الرباعية التي أصدرت بياناً شهيراً عقب انقلاب العسكر في 25 أكتوبر طالب بوضوح بضرورة العودة إلى الحكم المدني السابق وضمان المسار الديمقراطي للمرحلة الانتقالية.

أما مصر فهي كذلك اليوم ربما كانت أكثر ميلاً للاصطفاف إلى جانب الرباعية فيما يتصل بالمصير السياسي للسودان وضرورة عودته إلى المسار الديمقراطي حتى نهاية المرحلة الانتقالية.

وكما لا يخفى أن هذا التسريع للحراك الذي يحدث على إيقاع المؤثرات الإقليمية والدولية، حراك ذو صلة بحرب روسيا على أوكرانيا، فإنه كذلك، يرسم خطاً جديداً للضغط على المكون العسكري من طرف المجتمع الدولي، في الوقت الذي أدرك فيه هذا المكون فداحة ما أقدم عليه وما تلا فعله الانقلابي يوم 25 أكتوبر الماضي، من مصير مظلم لمستقبل السودان يوشك أن يؤدي به إلى مرحلة اللا عودة، لا سمح الله.

كما أدركت الحاضنة الحزبية للانقلابيين (بعض حركات أطراف العملية السلمية إلى جانب بعض الأحزاب في ما يسمى الميثاق الوطني) ذلك المصير عندما تيقنت من نية العسكر في الانفراد بالسلطة من ناحية، وتحالفهم مع بعض عناصر النظام القديم، من ناحية ثانية، مما بدا واضحاً اليوم في دعوة مجموعة الميثاق الوطني لمركزي الحرية والتغيير إلى الحوار حول مصير الوطن!

حتى الآن، لم نعرف بعض ردود فعل القوى السياسية بوضوح على هذه المبادرة المرتقب طرحها على الساحة.

وإذا كان واضحاً إمكانية ترجيح القبول المبدئي من طرف قوى الحرية والتغيير بمضمون المبادرة، نظراً للأطراف التي تقدمها، فإن هناك قوى ثورية أخرى مؤثرة، كلجان المقاومة، لم يعرف حتى الآن موقفها من المبادرة، لا سيما في ضوء اللاءات الثلاث التي رفعتها تلك اللجان في وجه الانقلابيين.

البعض قد يعترض على عودة الرئيس حمدوك مرة أخرى، نظراً للأوضاع السياسية السيئة التي نتجت عن اتفاق 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وما صاحبه من استغلال واضح للمكون العسكري، باعتبار أن توقيع حمدوك على ذلك الاتفاق في ظن أولئك البعض كان بمثابة خيانة لمبادئ الثورة، فيما البعض الآخر يرى أن حمدوك حاول مقاربة ما أمكنه للخروج من المأزق، لكن واقع الأزمة كان أكبر من محاولته، وفي كل الأحوال لا يزال لحمدوك إمكانية للعودة لأنه كان قد طرح شروطاً، وعندما أدرك أن شروطه لن تتحقق أوفى بوعده في الاستقالة، تاركاً الواقع السياسي إلى مزيد من التخبط.

اليوم، يحتاج الواقع السياسي المتدهور في السودان على إيقاع الانهيار الاقتصادي الوشيك، إلى خطة إنعاش سريعة ينبغي أن تتجاوز فيها كل القوى السياسية حزازات الماضي، بحيث يكون تركيزها منصباً على حقيقة واحدة، وهي: اليقين بأنه متى ما انفرط عقد البلاد ودخلت في الفوضى (التي توفرت كل شروط اقترابها) سيكون من المستحيل بعد ذلك العودة إلى نقطة الصفر ذاتها.

إن تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية اليوم منحت فرصةً أخرى أمام القوى السياسية السودانية للتسريع بالحل السياسي لإنقاذ السودان على هامش ضغط المجتمع الدولي باعتراضه ضد نموذج الحاكم المتسلط الذي تقدمه أفعال الرئيس الروسي بوتين، وما يمكن أن يترتب على ذلك النموذج، حال نجاحه في أوكرانيا، من تداعيات كثيرة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم.

هذه هي فرصة أخرى مواتية لانفراج الأزمة السودانية، وعلى قوى الثورة أن تلتقط ما تمنحه هذه اللحظة التاريخية من إمكانات إعادة محتملة للنظام الديمقراطي، بعد أن أدرك الجميع ليس فقط، خطر المرحلة السياسية الراهنة في السودان، بل كذلك بعد أن أيقن الجميع أن الاقتراب السريع من نقطة اللا عودة هو استمرار الانهيار الاقتصادي الوشيك!

ما يلوح من فرص بظهور هذه المبادرة المرتقبة على السطح هو امتحان آخر للعقل الحزبي السياسي في السودان، لأن عدم القدرة على رؤية الأولويات بمقتضى منهجية عقلانية وسياسية ستكون طريقاً ملكياً للخراب الذي نراه في أكثر دول حول السودان.

لننتظر خروج تلك المبادرة إلى العلن، لأن ما يدل على خروجها الوشيك، معطيات كثيرة وأحداث بدت اليوم لعلاقتها بحرب بوتين على أوكرانيا وزيارة حميدتي إلى موسكو، وما نجم عنها من مواقف وتصريحات وأسرار أكثر من دالة، مؤشر على الضغوط التي يفرضها المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة للتسريع بذلك الحل.

يمكننا القول أيضاً، إن الكرة، داخلياً، اليوم في ملعب قوى الثورة، وبخاصة لجان المقاومة الذين من الأهمية بمكان أن تكون لديهم اليوم مؤشرات قراءة صحيحة للواقع السياسي المتسارع إلى الهاوية حال غياب أي محاولة عاجلة لإنقاذه.

وإذا صدقت هذه الأنباء بقرب ظهور مبادرة جديدة للخروج من الأزمة، فإن وجود حمدوك – إذا ما تم قبول شروطه – سيكون مهماً لاستئناف المرحلة بحد أدنى من خطة إنقاذ الوضع الراهن الذي تغرق فيها البلاد اليوم.

لا بد لكل سياسي عاقل يدرك أولويات السياسية بوصفها حماية لمصالح الناس وإدارة لشؤونهم في ظل الأمن والسلم، أن يدرك أيضاً أنه حيال واقع يوشك على الانهيار كواقع الأزمة السودانية اليوم، لا بد أن يخوض في مسألة التسويات والتنازلات المشتركة من أجل إنقاذ الوطن من ضياع أبدي. لأن واقع التسويات والتنازلات لا تفرضه اليوم الوقائع الخطيرة التي تجري الآن في الساحة السودانية، كما يتوهم الساذجون، فهذه الوقائع الخطيرة إنما هي المرحلة والنتيجة الأخيرة لمفاعيل واقع صممه نظام "الإخوان المسلمين" على مدى ثلاثين سنة ليكون على هذا النحو من الخراب!