واضح وبالمعاينة المباشرة أو الافتراضية، أن هنالك تحوّلا مخيفا في المزاج البشري باتجاه مزيد من العدوانية والرفض والتطرف والقلق والرهاب والخوف، وغير ذلك من مشاعر أصبحت اليوم هي السائدة. أحدهم عبّر عن ذلك بقوله أن لا أحد أصبح يُطيق الآخر، في إشارة منه إلى جو سائد أصبح مُشبّعًا بالانفعالات وردود الأفعال الحادّة.

شمّاعة «كورونا» والتطعيم أصبحت قريبة لِيُعلّق عليها البعض أسباب مثل هذا التحوّل في المزاج البشري، وقد يحمل مثل هذا التفسير بعضاً من الحقيقة، خاصة في ظل ما أفرزته فترة الإغلاق والصمت العالمي من تأثيرات على الصحة النفسية والعقلية لدى شرائح كثيرة من البشر، بشهادة أطباء ومختصين في علم النفس البشري.

لكن هذه ليست هي القصة الكاملة، فالتكنولوجيا هنا لا شك تتحمّل جزءا كبيرا من التحوّل الذي نشهده اليوم في المزاج البشري بشكل عام، وبالأخص ما تشهده مواقع التواصل الاجتماعي من حوارات عمياء، يُديرها محاورون ومتابعون عبر فضاء افتراضي لا تنطبق عليه أدنى شروط الحوارات المعهودة، فالمتحدّث في أغلب نوافذ التواصل الاجتماعي يمتلك زمام الساحة بالكامل، وتتحطّم أمامه كل محاذير الرقابة الذاتية، فلا جمهور محسوس وملموس، ولا منصّة وميكروفون، هو فقط من يملك التحكّم في من يُحاوره، وبيده قَطْع الاتصال مع من يُعارضه، شجاعة افتراضية بعيدة عن رهاب المنصّة المعتاد، لكن يبقى لها من المساوئ الشيء الكثير، فَعَدَم مواجهة الجمهور في الحديث يُعطي المُتَحَدّث شجاعة زائفة، قد تَتَحوّل، كما نرى في أحيان كثيرة، إلى شجاعة وقحة أو جارحة أو غير مهذبة وخارجة عن سياق الحوار ووجهته الصحيحة.

كل من يستخدم أدوات التواصل الاجتماعي لا شك قد وَجَدَ نفسه يوماً في مواجهة خَصم وهمي أو مجهول يدخل معه في حوار أو جدال أو نقاش من دون أن يكون لديه أدنى عِلْم بخلفية مُحاوره أو حتى قدراته أو مدى جدّيته في الحوار أو قناعاته، ومع ذلك فإن الكثير من الناس اليوم أصبحوا يلجأون للحوار من خلف منصّات التواصل الاجتماعي لما توفّره من أمن وإحساس بالثقة في مواجهة الآخر، وذلك على العكس من الحوارات أو اللقاءات التقليدية والتي تكون فيها المواجهة محسوسة والحوار ملموسا، وبالتالي يكون فيها معيار الجودة في الحوار والانضباط على درجة أعلى وأدق بكثير.

في تقرير نشَرَته الاندبندنت العربية فَتَحَت فيه ما أسمَته بملف الاغتيال المعنوي على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب اختلافات الرأي في البلدان العربية، وكيف أمسَت هذه المنصّات مسدساً غير مُرخّص يستخدمه الجمهور على كل ما لا يوافق هواه، ولو كان حقيقياً يمشي بيننا في الطرقات ويراه هو رأي العين. استعرض التقرير كيف أصبح الاتهام بالخيانة ظاهرة مُنتَشرة في الجزائر، وكيف طغى الخطاب المُتَشَنّج على المشهد السياسي في تونس وتجلّى من خلال العنف اللفظي الذي غيّب ثقافة الحوار.

أما في لبنان، فقد أخذت الانقسامات السياسية مداها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت مشكلة الإعلام الجديد في لبنان غياب هوية المُستَخدِم وبالتالي لا يوجد أي شخص هنا يتحمّل مسؤولية كتاباته وحواراته، بينما يشتكي العراق من «صفقة الشيطان» مع منصّات العالم الافتراضي، وهو نموذج عمل وحياة غَيّر طريقة تفكير وسلوك الإنسان المُعاصر عندما صار يعيش واقعاً افتراضياً مُتَخلّيًا عن الطبيعة التاريخية السليمة للتواصل في المجتمع.

العالم كله مُدرك لأبعاد مثل هذا المأزق الافتراضي، يضع الحلول التي سرعان ما تواجهها التكنولوجيا بابتكار مآزق أخرى وهكذا، باختصار لا يوجد حل حقيقي وفاعِل لضبط آلية الحوار عبْر المنصات الافتراضية، بل وحتى قوانين الجرائم الالكترونية تبدو عاجزة عن ذلك.

اليوم وبعد أن كانت مواقع التواصل الاجتماعي هِبة العصر الحديث، أصبحت الآن لعنة تُطارد الجميع، وبعد أن كانت ساحة لتبادل المعلومات، أصبحت مسرحاً للسب والقذف وتشويه الآخر.

لقد أصبحت أدوات التواصل الافتراضي بالفعل مسدساً غير مُرخّص، يحمله العالِم كما الجاهل، والمجرم مع البريء والطفل مع البالغ، أما من يتحكّم في طَلَقات هذا المسدس ووجهتها فهو في حُكم المجهول أو الفاعل المُستتر.