زمان كانت تصدُر أغنية واحدة كل فترة، تَتَلقّفها الأذن وتردّدها، كانت حينها الجودة عالية والأداء مبدعاً، والمهنية متألقة، اليوم أصبحت تخرج أغنية كل ساعة لكنها لا تترك أثراً إلا وجيزاً، تَتَردّد على مدى أسبوع أو شهر ثم يطويها النسيان.

زمان كانت تخرج مسرحية واحدة يُردّد الجمهور ما ورد فيها من عبارات، ويتداول الناس حبكتها ورسالتها، اليوم هنالك عشرات المسرحيات التي لا تترك أثراً ولا تحرك مشاعر ولا تفاعلاً.

من الواضح أن العالم بأكمله أصبح نهِماً بدرجة مفرطة، ليس نهَم الطعام والأكل فقط، وإنما النهَم على كل الأصعدة، في الفن والموسيقى والشعر والملبس والأكل والسفر والسياحة وكل شيء، ليس هنالك مدى لاكتفاء ولا شبع وبشكل أفقد الكثير من مناحي الحياة قيمتها وطعمها ولونها.

قطعاً لا يقع اللوم هنا على الفرد وحده، بل على منظومة بشرية متكاملة أصبح الاستهلاك النّهِم هو ثقافتها بعد أن تحوّلت الحضارة البشرية المعاصرة إلى سوق شاسع ومخيف تحكمه الأنظمة الاستهلاكية والانتاجية الجشعة.

كان لكونفوشيوس، حكيم الصين، فلسفة قائمة على القِيَم الأخلاقية الشخصية ونادى بأن تكون هنالك حكومة تخدم الشعب تطبيقاً لِمُثُل أخلاقية عليا.

كونفوشيوس العظيم هذا كان يقول: «السيد أو المعلّم يفهم ما هو صحيح والرجل الصغير يفهم الربح»، بمعنى أن الإنسان أصبح صغيراً بعد أن تحكّم فيه منطق الربح وتعظيم المكاسب وبات كل من يوقِظ حِسّه ووعيه للتساؤلات الوجودية مكروهًا منبوذًا، لذلك كانت اغلب الإعلانات الاستهلاكية ترفع شعار «لا تُفَكّر».

في العام 2021 أصدر عبدالرحمن أبو ذكري دراسة حول العادات الاستهلاكية المعادية للإنسان، البحث خرج بعنوان «حضارة السوبرماركت» ويتناول في مقدمته حقيقة مُرّة وهي أن البعض إذا أراد إسباغ قَدْر من الرُّقي النوعي على الإنسان، فإنه يتحوّل من تقويمه بقيمته البيعية الى تقويمه بقدرته الشرائية، وأن كل «عظيم» غير قابل للبيع فهو قادر على شرائك وشراء بلدك وشراء أهلك، وكل ما لا يمكن حساب قيمته السوقية أو المادية بشكل ملموس فلا قيمة له على الإطلاق، ويسترسل عبدالرحمن أبو ذكري في شرح وقراءة تأثير النزعة الاستهلاكية على الإنسان وقِيَمه بعدما تحوّلت الحضارة المعاصرة إلى «حضارة» استهلاكية بالدرجة الأولى، معتبرًا أن اعتبار الربح والمنفعة هما القِيَم الحاكمة لحركة الحياة له آثاره الكارثية على الإنسان، وأن ثقافة السوبرماركت في العالم كله ما هي إلا تدعيم لنزعة الشّرَه الاستهلاكي لأنها فتحت شَرَهًا جديدًا في أعماق الإنسان نفسه وخلَقَت منه نفسًا لا تشبع.

واضح أن مثل هذا الشّرَه أو النّهم كما جاء في المقدمة لم يقتصر على السلع العينية المصفوفة في السوبرماركت أو في محال التجزئة من ملابس وأثاث وأشياء أخرى كثيرة، بل لقد طال الفنون والمسرح والأدب بل وحتى الخيال والمشاعر والعلاقات الاجتماعية، فمواقع التواصل الاجتماعي اليوم ممتلئة برسائل التوسّل لاستجداء رموز تعبيرية تعكس قبولا أو محبة أو إعجابا أو إعادة تغريد لفكرة أو خاطرة أو حتى تحية صباحية.

العالم الشّرِه اليوم أصبح يُغذّي بعض الشرائح وخاصة الشبابية منها بمُركّبات نقص حين مخالفة أي من شروط «حضارة» السوبرماركت الاستهلاكية، سواء في المظهر الخارجي من ملابس وساعات وحقائب وغيرها، أو في أولوية التواجد في المقاهي والمطاعم وخاصة حديثة الافتتاح، فالشّرَه والنّهم هنا ليس في الاستهلاك وحده بل كذلك في أولوية التواجد والاستحواذ على كل مُنتَج أو مكان جديد.

قد لا يكون هنالك مَخرَج سليم ومضمون من مشهَد مشَوّه كهذا لأولويات البشر، فكما أن هنالك متضررين في المشهد، هنالك قطعًا مستفيدون استطاعوا أن يتغلغلوا في النسيج الاجتماعي ويعبثوا بأولوياته بالشكل الذي نراه اليوم، هؤلاء من يملك كوابح حمّى الاستهلاك وهم قطعًا لا يمكن أن يستخدموها، فالمردود هنا أكبر بكثير من أي قيمة إنسانية أخرى.

لا شك بأن حالة الشّره والنّهم التي يمارسها العالم اليوم سواء في الفن أو في الأكل أو في سائر مناحي الحياة لم تأت بين ليلة وضحاها، بل بعد مسار طويل من التحفيز على الاستهلاك وبشكل أوصل العالم كله إلى مرحلة فقدان المعنى في كل شيء ومع كل شيء، لِتَصدُق عبارة الباحث عبدالرحمن أبو ذكري حين وصفَها في بحثه بكونها حضارة السوبرماركت الاستهلاكية المُعادية للإنسان.